الاجتهاد الجماعي في العصر الحاضر(4)

 

دعوتنا إلى الاجتهاد الجماعي

إن الاجتهاد يمكن أن نقسمه إلى قسمين: 

1 - اجتهاد فردى.

2 - واجتهاد جماعي.

لا شك أن الشريعة الإسلامية تسمح لممارسة كل من هذين القسمين. وقام كبار الفقهاء المجتهدين أمثال الإمام الأوزاعي والإمام الشافعي والإمام مالك - رحمهم الله تعالى أجمعين - وغيرهم بالقسم الأول من هذين القسمين، وكتب الله لجهودهم القبول والشيوع. ولكن نرى منذ البداية أن القسم الثاني للاجتهاد - وهو الاجتهاد الجماعي - كان سائدا بين طبقة من كبار الفقهاء. فكان الخلفاء الراشدون وخاصة الشيخان - رضى الله عنهما - لا يقدمان على الاجتهاد الفردي بل كانا يطرحان القضية أو النازلة عند مجمع من أهل العلم والفقه، ليجتمع كل منهم في دراسة القضية وإخراج ما عنده من الرأي والعلم بالكتاب والسنة، ثم يجتهدون ويصلون إلى نتيجة نهائية. فروى الإمام البخاري والدارمي والبيهقي أن سيدنا أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - إذا رفعت إليه قضية نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه شيئا نفذه، فإن أعياه ذلك رجع إلى السنة، فإن وجد فيها شيئا عمل به، وإن أعياه ذلك دعا رءوس المسلمين وعلماءهم، فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به! ويقول الإمام الباقلاني: وكان عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - لا ينفذ الأحكام إلا بمجمع من أصحابه وحضورهم ومشاورتهم مع فضله وفقهه وحسن بصيرته بأخذ الأحكام وطرق القياس ومعرفة الآثار. وربما كان الخلفاء الراشدون يدرسون القضية مع أصحاب العلم شهرا، فيروى الإمام عامر الشعبي أن القضية كانت ترفع إلى عمر وربما يتأصل في ذلك شهرا ويستشير أصحابه. 

ومن أهم أمثلة ما قضاه الخلفاء الراشدون والصحابة باجتهادهم الجماعي:

1 - مسألة تدوين القرآن.

2 - الاجتهاد ضد مانعي الزكاة!.

3 - ميراث الجدة.

4 - عدم تقسيم أراضي السواد وغيرها من المسائل. 

ثم نرى الإمام أبا حنيفة النعمان - رحمه الله - الذي أنشأ مجمعا كبيرا من العلماء والفقهاء والمحدثين وأصحاب الجرح والتعديل والمفسرين وعلماء اللغة والكلام، قام معهم بتدوين المذهب الحنفي الذي يمثل أحسن مثال للاجتهاد الجماعي في عهد التابعين وأتباع التابعين. ولكن هذا الأسلوب الجماعي للاجتهاد الذي وضعه الإمام أبو حنيفة- رحمه الله- لم يستمر بعده. ولو استمر على منواله السابق لكان فيه خير كثير للإسلام والمسلمين. ولكن فضل إحياء هذه السنة في القرون الأخيرة يرجع إلى السلاطين العثمانيين الذين شكلوا لجنة من أهل العلم لهذا الغرض، ولاشك أن تدوين مجلة الأحكام العدلية على أيدى جماعة من العلماء من أهم الخطوات التي اتخذت في سبيل الاجتهاد الجماعي في عصرنا الحاضر.

الأسباب التي تقتضي ممارسة الاجتهاد الجماعي:

1 - لم يبق بين المسلمين أناس بالمستوى الرفيع من العلم والمعرفة والأخلاق والورع بحيث يقبل عامة المسلمين على فتاواهم كما كان الحال في الماضي مع علمائنا السلف.

2 - المسلمون متفرقون مشتتون منقسمون إلى 47 دولة مستقلة منفصلة بعضها عن البعض، والاجتهاد الفردي إذا استمر على وتيرته السابقة فلا يؤدي إلا إلى مزيد من التفرق والتشتت، فاجتهاد الباكستانيين يكون مختلفا حينئذ عن اجتهاد المصريين، وما سيصل إليه السعوديون قد يختلف عما يصل إليه الجزائريون، وهذا الاختلاف قد يتجاوز حدوده المعقولة المسموحة بها في شريعة الله، وهذا أمر سوف يجعل أعداء الإسلام يسخرون منا ومن ديننا.

3 - أن تدخل الحكومات في كافة شئون المجتمع يحول دون ممارسة الاجتهاد الفردي، وإبداء الآراء في المشاكل القائمة بكل حرية وموضوعية، ولكن اتحاد الآراء واجتماع الأفكار بين علماء المسلمين المنتمين إلى البلاد الإسلامية كلها يعطيهم وزنا ومكانة لا ينتزعهما حاكم مستبد ولا سلطان جائر. ومما ترتاح إليه النفوس وتقربه الأعين أن الأمة الإسلامية بدأت الآن تتجه إلى هذا الاتجاه اتجاها حسنا. فإنها أدركت أن الاجتهاد الجماعي أقرب إلى الاحتياط والصواب والاطمئنان من الاجتهاد الفردي، وخاصة في عهد قيد فيه الزمان، وندر فيه العالم المتعمق، وقل فيه الصلاح والتقوى، وانتشر فيه التعليم، وتشعبت فيه العلوم والفنون وأصبح العصر عصر الاختصاص، فلا نجد فيه أناسا يجمعون بين أصناف العلوم، ويتعمقون في علوم الشريعة كلها كما تعمق فيها السلف الصالحون وأن أغلبية من يدعون بالعلم في عالمنا الإسلامي لا يتمتعون بثقة الناس بصلاحهم وتقواهم وخشيتهم لله وحبهم لرسوله. فبدأت والحمد لله مظاهر سير الأمة الإسلامية على هذا الاتجاه المبارك المنشود. فعقد ندوات ومؤتمرات عديدة للبحث والدراسة في قضايا الفقه الإسلامي المختلفة، ونشر موسوعات فقهية في بلاد مختلفة، وتأسيس المجامع الفقهية المتعددة، وإنشاء منظمة قانونية دولية تحت إشراف المؤتمر الإسلامي، وما إلى ذلك من الخطوات كلها، إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الفقهاء المسلمين المعاصرين بدؤوا يدركون أهمية هذا العمل في العصر الحديث، ولا يسعني أن أنسى هنا ما قام به الإمامان الجليلان العلامة مصطفى أحمد الزرقاء والعلامة محمد حميد الله من جهود علمية وتقديم برامج عملية للوصول إلى هذه الغاية المنشودة.

والذي يراه كاتب هذه السطور في مجال تحقيق هذا الهدف هو كما يلي:

1 - من المعلوم أن الفقه الإسلامي والثروة الحقوقية الهائلة التي قام بإنتاجه آلاف الفقهاء عبر القرون لم تظهر إلى حيز الوجود بجهود حكومية أو شبه حكومية، بل قام بإنتاجه العالم في مكتبته، والمدرس في مدرسته، والمفتي في دار إفتائه، والقاضي في محكمته، كل ذلك دون أدنى تدخل من الحكام وولاة الأمر، وكل ما نراه من التطور القانوني الذي لا مثيل له ولا نظير عند أمة من الأمم حدث كله على نطاق غير رسمي بحت. فالإمام أبو حنيفة وزملاؤه من الفقهاء الأجلاء لم يكونوا أعضاء في مجلس شكله ولى الأمر، ولم يكن الإمام مالك ـ رحمه الله ـ عضوا في أي برلمان أو هيئة تشريعية، وكذلك الأئمة والفقهاء الآخرون لم يعينهم خليفة من الخلفاء أو ملك من الملوك ولم يطلب منهم أن يقوموا بهذا العمل التشريعي، بل كان بعضهم موضع حقد وعرضة اضطهاد من قبل ولاة الأمر، كما لا يخفى على المطلع الخبير، وكفاك مثالا ما قاساه الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ من مصائب وشدائد. وقصارى القول أن طبيعة الفقه الإسلامي هي الحرية التامة والاستقلال الكامل عن تدخل الحكومات والهيئات الرسمية. فيجب أن يكون هذا العمل الضخم ـ وهو الاجتهاد الجماعي ـ حرا ومستقلا عن الحكومات والإدارات الرسمية ويقوم على نطاق غير رسمي بحت.

2 - نحن نعيش الآن في عصر أصبحت فيه البشرية أسرة واحدة، ولكن العالم أيدي الاستعمار الغربي متفرقا ومشتتا. ولكن زعماءنا، والحمد لله، يقومون بجهود مشكورة لتوحيد كلمة المسلمين وجمع شملهم في جميع مجالات الحياة.

وإذا كان المسلمون فيما مضى قرروا أن يقلدوا مذهبا فقهيا معينا في منطقة معينة نظرا إلى أسباب عديدة من صعوبة السفر وقلة وسائل النقل وبطئها وعدم وجود كتب وعلماء من مذهب فقهى آخر فهذه الأسباب قد زالت الآن بسهولة السفر وكثرة وسائل النقل وسرعتها وتوفر المصادر الفقهية من جميع المذاهب الإسلامية في جميع بقاع العالم. فإذا زال السبب يجب بطبيعة الحال أن يزول المسبب، فيجب علينا الآن أن نخرج من ضيق المذاهب إلى سعة الشريعة الإسلامية السمحة السهلة، ونختار من جميع المذاهب وآراء الفقهاء ما هو الأصلح والأنسب لعصرنا هذا وما هو الأقرب إلى روح الشريعة الإسلامية وأوفق بالعدل والقسط بين الناس.

وهذا الفقه المقارن لم يكن سهلا أخذه والعمل به فيما مضى لما ذكرنا. فأفتى بعض العلماء بوجوب اتخاذ مذهب معين. ولكن كلما تيسرت الظروف لمثل هذا الموقف لم يتردد فقهاؤنا الكبار في الأخذ من جميع المذاهب. فيقول الإمام ولى الله الدهلوي في كتابه الإنصاف في بيان سبب الاختلاف:

فإذا كان إنسان جاهل في بلاد الهند وبلاد ما وراء النهر وليس هناك عالم شافعي ولا مالكي ولا حنبلي ولا كتاب من كتب هذه المذاهب وجب عليه أن يقلد مذهب أبى حنيفة، ويحرم عليه أن يخرج من مذهبه، لأنه حينئذ يخلع من عنقه ربقة الشريعة ويبقى سدى مهملا، بخلاف ما إذا كان في الحرمين لأته يتيسر له هناك معرفة جميع المذاهب

يكفيه أن يأخذ بالظن من غير ثقة، ولا أن يأخذ من ألسنة العوام ولا أن يأخذ من كتاب غير مشهور .

ولابد هنا أن أشير إلى قضية هامة وهي أننا قبل أن نخوض في بحر الفقه المقارن أو "الفقه الإسلامي العالمي" إذا جاز التعبير، يجب علينا أن نتفق أولا على قواعد ومبادئ أصولية نبني عليها هذا البناء الرفيع، ولابد أن تكون هذه القواعد والمبادئ الأصولية مستخرجة من جميع المذاهب الإسلامية والآراء الفقهية.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين