حرية الإنسان تكليفه، القضاء والقدر (1)

العلامة الشيخ يوسف الدجوي (المولود 1287 والمتوفى 1365) عن ثمانية وسبعين عاما، من مفاخر الأزهر وكبار علمائه، بل العالم الإسلامي، له مقالات رائعة وفتاوى ذائعة، وقد اخترنا بعض مقالاته ونشرناها في الموقع. ونجدد اليوم نشر هذا المقال المهم عن (حرية الإنسان وتكليفه وصلته بالقضاء والقدر) الذي نشر في العدد الرابع من السنة الأولى: ربيع الآخر 1349 في مجله:( نور الإسلام)، التي سميت فيما بعد بـ(مجلة الأزهر).

وقد قام بإعداد هذا المقال للنشر الأخ الكريم طارق قباوة وفقه الله، وقمت بمقابلته على الأصل المنشور وتصحيحه، وأرجو أن يجد القراء فيه نفعا كبيرا.

وكتبه: مجد مكي.

نكتب اليوم في القضاء والقدر ، وهو من أعوص المسائل سراً، وأبعدها غوراً، وقد اضطربت فيه الأفهام، وزلت فيه الأقدام، وأكثر في خوض عبابه المسلمون والمسيحيون، وإن كانوا يرموننا الآن بالتأخر والجود والتكاسل والتواكل من جراء ما نعتقده من القضاء والقدر، ونسوا أن تلك العقيدة عندهم كما هي عندنا، بل يجب أن تكون في كل دين من الأديان لأنها حقٌّ لا مرية فيه، وليس ذلك منافياً للحرية الإنسانية كما سيتضح لك أجلى اتضاح، ولقد كان يكفي لإدحاض ما رموا به المسلمين نظرة واحدة لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين أتوا من جلائل الأعمال ما غيَّر وجه البسيطة وقلب نظام العالم.

هذا ما أرشدنا إليه عمله مما امتلأ به التاريخ، وقد عضده الكتاب والسنة، ولكن الأمر كما يذكرون هم عن سيدنا المسيح عليه السلام: (إن الإنسان يرى القذى في عين أخيه و لا يرى الخشبة في عين نفسه)، على أن ذلك جهل بحقيقة القضاء والقدر عندنا وعندهم كما ستقف عليه، ولنجتهد في توضيح ذلك حتى تجعله على طرف الثمام، وإن كان من معترك الأفهام ومزالق الأوهام، ولعل ذلك هو ميزة المجلات العلمية في هذا العصر: توضح الخفي ، وتقرِّب البعيد، وتطلع الجمهور على ما كان لا يتحدث به إلا بين الخاصَّة وسط المعاهد العلمية أو المعابد الدينية معرضين عن الاصطلاحات المذهبية والعبارات الفنية ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً فنقول:

من البدهي أننا نختار الفعل على الترك، والترك على الفعل، فنرجح ما شئنا متمتعين بالحرية. وقد كان يحب أن يكون هذا كافياً في الجزم بحريتنا واختيارنا. وقد تعلم أن كل ما يعارض البدهي أو المحسوس يجب ألا يلتفت إليه، ويكفي في سقوطه مصادمته للبديهة، حتى إننا عرفا أن هناك دواعي تدعو إلى ذلك الفعل لم نشك في أن لنا دخلاً في الفعل بالتفكير والترجيح بعد الموازنة والتروي، فإذاً لنا شيء، في العمل لا محالة، وإن كنا نعتقد أن ما يسره الله كان ومالا فلا، وإذا كانت الأسباب الجمادية لها تدخّل في الأشياء كما قال تعالى في حق الماء: [يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ] {النحل:11}، فجعل الإنبات به كما جعل الأحياء به كما جاء الإحياء به في الآية الأخرى، فكيف لا يكون لنا تدخّل فيما يكون منا.

هل السبب الآلي أقوى من السبب المفكر المختار الذي يستطيع أن يقلب الأسباب الآلية ويسيِّرها في أيِّ طريق شاء وهو أعظم منها، فإنها مسخَّرة له وهو مليكها، فكيف لا يعطى ما أُعطيته من الأحكام وهو أقوى الأسباب وأعظمها؟!

ولماذا لا يجعلون من الأسباب التي يتوقف عليها الفعل نظر الإنسان وإرادته واختياره وترجيحه، هل يكون لغير العاقل المقهور من التدخل في الفعل ما ليس للعاقل المختار! اللهم إن ذلك غير معقول، فلم يبق إلا التحديد و بيان مقدار ما للعبد من ذلك، وهو غير ضروري للعلم الإنساني، بل غير ممكن فإن اكتناه الأشياء كما هي غير مستطاع للإنسان ولا داخل في متناول قدرته، فهذا الغذاء الذي هو من أظهر الأشياء لا نعرف من أمره إلا الظواهر التي لا تسمن ولا تغني من جوع، أما كيفية انقلابه أعضاء مختلفة فلا نعرفها ولا نستطيع أن نعرفها، وكذلك ما تنبت الأرض من أوضح الواضحات من حيث أطواره المعروفة، ولكن كيف تكوَّن هذا النبات من التراب، و كيف استحال التراب أزهاراً بهية، وأثماراً شهية، فذلك مما لا سبيل إلى الوصول إليه، وهكذا الأشياء كلها.

ومما يجب أن يلتفت إليه: أن كل شيء نستطيع البحث فيه إلى حدٍّ محدود، فإذا تجاوزنا ذلك الحد، استغلق علينا وانسدَّت أبواب الفهم فيه، فأخذنا نضرب في متاهات الخيال، ونخبط في مهامه من الظنون والأوهام، فتضاربت الأقوال وتناقضت الآراء ؛ ولعلك رأيتهم كيف تخبطوا في الوجود وهو أظهر الأشياء عند ما تعمقوا فيه، وكذا العلم والنور إلى آخر ما رأيت، ولو عرفنا هذه الحقيقة فلمْ نجاوز قدرنا ولم نتعد طورنا لزال هذا العناء وذهب ذلك الشقاء، وهي حقيقة يجب أن تقرر وتكرر حتى تملأ الرؤوس وتثبت في النفوس.

ومن العجيب أنهم أطلقوا القول في هذه المسألة (مسألة أفعال العباد) مُنْجدين ومُتْهمين، مشرّقين ومغرّبين، فكانت من أعوص المسائل بين الفرق الإسلامية والمسيحية. 

ولو تأملوا لعرفوا أنه لا فرق بينها وبين غيرها، فكل شيء عويص إذا أردنا أن نقف على كنهه وحقيقته، فما بالنا نتجاوز قدرنا ثم نكثر من الصراخ والضوضاء! 

وبعد فالقول بكون الإنسان مجبراً لا مختاراً قول بإسقاط كل تبعة وكل مزيَّة، وجراءة على التسوية بين الخبيث والطيب، وهو أمر يناقض العلم اليقيني وينافي البدهيات الأولية.

ويعجبني قول من قال: كيف تزعم أنك جبري مع أنك تجري لإحضار الطبيب لمريضك، وتدافع عن وطنك، وتستدعي رجال المطافئ، لإطفاء حريق بيتك، وتعمل على وقف النار التي بدأت تشبّ من شرارة أصابت أوراقك في حجرة عملك ! وإن لديك عقلاً وإنك لتنتفع به فيما تريد ولا سبيل إلى إنكار ذلك.

فالأشياء تقع بأسبابها، ومنها: الإرادة الإنسانية، فهي بعض الأسباب العاملة في سير الحوادث في هذا الوجود، ثم نقول: يوجد أعمال كبيرة لكبار الرجال، فمن الذي يستطيع أن يقول: إنهم لا فضل لهم في إحداثها أو ليس لهم تدخّل فيها، وبعبارة أخرى: ليسوا من أسبابها، أو هم أعظم أسبابها من حيث كونهم رجالاً ذوي عزيمة صادقة وإرادة قوية وأفكار حرة لا من حيث كونهم آلات مسخَّرة لا تستحق حمداً ولا شكراً، ولا تستطيع أي سفسطة أن تزيل منا ذلك الاعتقاد الذى يتملك كل نفس وكل عقل حتى نفوس الأطفال وعقول الجهال، فإن كل واحد منا يعتقد اعتقاداً لا يدافع أن له أثراً أو تسبُّباً في كثير من الأشياء، فنحن نعمل ونعتقد أننا فاعلون لا منفعلون، ونعتقد أننا نبني بأيدينا صرح المستقبل في الدنيا والآخرة، وإن كان ذلك على حدٍّ محدود وعلى قدر ما وهبنا الله تعالى، فكيف يصح أن يقال: إننا كمية مهملة في الوجود مع أننا أكبر عوامله التي تعطيه الرواء والبهاء ؟؟. 

والنتيجة لهذا كله: أنَّ للإنسان تأثيراً في وجود الأشياء، فإنه حلقة كبيرة من حلقات سلسلة الوجود، بل هو أهم حلقاتها، ولكنه غير مستقل استقلالاً تاماً في المسألة، فيجب أن يكون عليه من المسئولية بقدر ماله من الأثر في ذلك الفعل والتدخل فيه حتى إذا صار مكرهاً أو ملجأً كان غير مسئول بالمرة، فليس العبد مجبراً ولا آلة صماء كما يحس بذلك إحساساً لا يعارض عندما يعرض له أمر خطير، بل عندما يسعى لرزقه وجاهه ووظيفته وشهادته. 

ومن العجب أنه في أموره الدنيوية يكون معتزلياً متطرفاً، وفي أموره الدينية يكون جبرياً متطرفاً، اتباعاً لما [تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى] {النَّجم:23}، ومع كوننا نقول: إنه غير مجبر ، نقول أيضاً: إنه لا غنى له عن الله تعالى، فإن علمه قاصر وقدرتَه قاصرة، ولا سلطان له على الأمور الخارجية، ولا على تتميم الموجبات لما يريد، ولا منع الموانع عما يريد، فمن الموانع التي يجوز أن تحدث ما لا يدخل تحت علمه وقدرته، وأنت تعرف أنك حر ههنا، ولكن كونك حراً لا يقتضي أن تكون غير مقيَّد بالقوانين ولا خاضع للدساتير إلى آخر ما تعلم ولا تجهل، فالأشياء يجب أن توضع في مراكزها ولا تتعدى حدودها، فإنَّ الاستقلال التَّامَّ يستتبع القدرة القاهرة والعلم المحيط، وذلك ليس إلا لله تعالى. 

لسنا ننكر أن هناك أسباباً خارجية تؤثِّر في مجرى الحوادث، ولكن أنت من الأسباب أيضاً ، ولك عملك الخاص في دائرتك الخاصَّة عند ما يجيء دورك.

وقد رأيتُ بعضهم يشبه الإنسان في هذه الحياة براكب في سفينة قضي عليه أن يركبها، وأن يسير فيها، فليس مختاراً في ركوبها ولا في السير فيها، ولا هو طليق يذهب حيث شاء، ويسير حيث أراد، ولكن له مع ذلك حرية تامَّة فما يفعله في تلك الدائرة المحدودة، فيتصرف في شئونه الخاصة كما يشاء: يذهب ويجيء فيها كما يريد بشرط ألا يتعدَّى مقدم السفينة، ولعل هذا معنى قول سلفنا الصالح: (لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين). 

ثم إننا نرى أن الأفعال كلها قد أسندت إلى العباد في كتاب الله تعالى، ولذلك كُلفوا، وما كان الله تعالى ليكلِّفهم ما هو خارج عن استطاعتهم ومتناول قدرتهم [لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا] {البقرة:286} فقد منحك الله تعالى القدرة والإرادة فجعلك قادراً مريداً، ولو شاء سبحانه لجعلك عاجزاً مقهوراً، ثم وكَّل إليك تصريف تلك الإرادة بمحض اختيارك إلى أحد الجانبين من الفعل والترك.

والترجيح شأن من شئون الإرادة الذاتية، والتصرف أمر اعتباري يرجع إليك الفصل فيه حتى إنك قد ترجح المرجوح تقديماً للشهوة على النظر العقلي أو تمتعاً بلذة الحرية التي تجدها من نفسك، ومع ذلك ما لنا والتعمق والتحديد بعدما أريناك أن تحديد الأشياء على ما هي عليه مختص بالله تعالى وإلا تساوى علمك وعلمه، وأين العبد من المعبود، وأين المحدود من غير المحدود! وهذا جار في كل شيء لا في خصوص أفعال العباد. 

ويعجبني قول بعضهم: إننا نعرف أننا أحرار في حركاتنا وسكناتنا، وذلك محسوس لدينا لا يمكن أن نشك فيه كما نعلم بالبرهان العقلي أن الأمور راجعة إلى الله تعالى، وهو مالك زمامها وصاحب التصرف فيها على ما تقتضيه الإلهية [وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ] {هود:123} وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلنؤمن بهاتين الحلقتين: الأولى والأخيرة، ولندع ما بينهما من الحلقات.

هذا: وقد علمت أنه شاء أن يعطيك الإرادة والاختيار، ولنقف عند هذا الحد من الكلام على أفعال العباد، ولنتكلم على القضاء والقدر الذي يظن كثير من الناس أنه ملزم ومجبر فنقول:

يتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين