وقفة منهجية في ذكرى المولد الشريف (1-2)

في هذا الشهر شهر ربيع الأول من كل عام، تثور مجادلات لا حدود لها بين الناس حول مشروعية الاحتفال بذكرى مولد النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- ولا أريد أن أكون طرفاً في هذا السجال، لكني أرى أنها نموذج حي ومناسب لدراسة منهج هؤلاء المتحدثين عن الله اليوم في طريقة تفكيرهم وأسلوب حوارهم مع كل مخالف لهم، ذات اليمين أو ذات الشمال. 

بنظرة متأملة ومتألمة أيضاً لكل هذه المساجلات والمجادلات، تجد أن كثيراً من المختلفين يفتقرون إلى استحضار المنهج العلمي في إدارة خلافاتهم وحواراتهم، وربما افتقروا أيضاً إلى القواعد الأخلاقية في التعامل مع الآخر أيّاً كان ذلك الآخر. فهذا القرآن الكريم، يشدّد على المسلمين بأسلوب التأكيد والحصر الشديد: {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. وأهل الكتاب هؤلاء هم المكذّبون بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وليسوا ممن نختلف معهم في مسألة فرعية أو ثانوية. ومعنى {أَحْسَنُ} في الآية، ليس المجاملة الدبلوماسية، بل الأحسن في ضبط أصول الحوار وتوخّي دقة المعلومة، والحرص على فهم مراد المتحدث، والإنصاف في القول والحكم، وتجنّب الاتهام بلا بيّنة وتقويل الخصم ما لم يقل، أو محاججته في ما لا يعتقد؛ فهذه أصول المجادلة الهادفة التي هي مظنة الوصول إلى الحق. ولو أخذ المسلمون في خلافاتهم البينية بما أمرهم الله أن يأخذوه في خلافاتهم مع أهل الكتاب، لكانوا على خير عظيم. 

أول الإنصاف الذي قد يغيب في زحمة الجدل وردود الأفعال، أن الاحتفالات التي يقيمها المجيزون ليست واحدة؛ فهناك احتفالات عبارة عن حلقات علمية وأدبية ولا تخص ليلة معينة بل تستمر لشهر أو أكثر، وهذا ما رأيته وعايشته لسنوات طويلة في مساجد الفلوجة، ولم أرَ اختلاطاً بين الرجال والنساء، ولا خروجاً عن أحكام الشريعة، بل هي مناسبات تثقيفية، وقد رأيت كثيراً من دعاة المنهج السلفي ممن يشجعها ويشارك فيها، ويبقى بعض المعترضين على أصل الفكرة وتخصيص هذا الشهر بهذه الأنشطة، وهو اعتراض علمي ينبغي أن يُقابل بجواب علمي كذلك. لكن صورة الاحتفالات ليست كلها كذلك؛ فقد حضرت بنفسي أيضاً احتفالاً في أطراف بغداد، وساءني جداً ما رأيت؛ رأيت أحد المعمّمين يطلب من المنشدين أن يتحفوه ببعض «المدائح الشركية» على حد تعبيره، يقول ذلك استهزاء بإخوانه المعترضين على مدائح الغلوّ، والتي فيها خلط واضح بين مقام الخالق ومقام المخلوق، تماماً كما يفعل غلاة التشيّع بأئمتهم. ونما إليّ في هذا الموسم أن بعض احتفالات بغداد قد صاحبها بذخ وإسراف، في الوقت الذي يهلك الناس من التشريد القسري جوعاً وبرداً وقهراً، وكذلك استغلال بعض الناس للاختلاط المسيء بين الرجال والنساء في الشوارع والساحات العامة، وهذه وإن كانت بغير رضا القائمين على الاحتفال -فهم قطعاً لا يتحكمون بالشوارع والساحات التي خارج المسجد- لكنها صورة يجب أن تُنكر. 

إذن، هناك صور مختلفة للاحتفالات وللمحتفلين، وخلط هذه الصور وكأنها صورة واحدة هو مظهر من مظاهر الحيدة عن جادّة المجادلة بالتي هي أحسن؛ إذ فيه اتهام لكل مخالف بأنه راضٍ عن كل ذلك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين