إشكالية مصطلح (الدولة الإسلامية)

 

حيث أنّ إقامة (الدولة الإسلامية) ونقضها أصبح لا يتجاوز فتوى أو إعلان، كان من المناسب أن نسعى لتقديم توصيفٍ عمليٍّ لطبيعة الحكم في هكذا دولة، كي لا نكتفي بالشعار دون المضمون.

 

الحُكم الراشد لدولة المسلمين هو الذي يهتدي بالقيم العليا للإسلام، وهو الذي يحقّق خمسة شروط: 

 

يسعى إلى تحقيق العدالة في المجتمع.

ويحرص على صيانة كرامة الأفراد (ذكرهم وأنثاهم) وحريات المجموعات بغض النظر عن الانتماء الديني أو القومي.

ويتوجّه نحو تأمين وحماية كفايات المعاش، على الصعيد الفردي والجماعي، قبل كماليتاتها.

ويشجّع على الفضيلة ويضيّق على الرذيلة ويرفض الإكراه في مسائل الدين.

ويحقّق أهدافه من خلال آليات التشاور والمشاركة والتمثيل والمحاسبة وضوابط القانون والعرف في جميع التشكيلات المجتمعية أدناها وأعلاها.

ويلاحظ أنه تجنّب هذا التعريف عبارة (الدولة إسلامية)، وسأشرح أسباب هذا الاختيار.

 

إن عبارة (الدولة الإسلامية) مصدرٌ لكثير من الاختلاط في الفهم، إذ قد يُظن أنّ المراد بها هي دولة الحكم الثيوقراطي الذي يتزعّمها (رجال دين).  وثمة مصدران يرسّخان هذا المعنى غير المقصود، أحده هو التجربة الإيرانية التي انتهت إلى تشكيلة سياسية متناقضة داخلياً بين جهاز حكمٍ مؤسّساتي قانوني دستوري وبين جهاز سلطة الحوزة الدينية والمتمثّلة بالأئمة.  أما تجارب حكم طالبان في أفغانستان والجماعات الثورية في سورية وغيرها فلم تكتمل لها عناصر الدولة أصلاً حتى توصف بوصف الدولة؛ وما يعدو الوصف أن يكون شعاراً إديولوجياً.  ولكن المصدر الأساسي لهذا الاختلاط هو المعالجة الشائعة في وسائل الإعلام والصحف والمجلات والتي تُردّد لغز (فصل الدين عن الدولة)، فتسبّب ردّة الفعل والقول بالدولة الإسلامية.

 

وأصل العبارة في منشئها الأروبي هو فصل “الكنيسة عن الدولة”، لا الدين عن الدولة.  وفي التجربة المسلمة، كيف نفصل بين شيئين لا يوجد أحدهما، فالنموذج الإسلامي نموذج حرّ مفتوح، ليس مقيّداً بهيكلية دينية على الطريقة البابوية.  ولنا أن نتذكّر أنه في تاريخ المسلمين لم يترأس العلماءُ الدولة، ولم يكونوا هم الخلفاء ولا الوزراء، وإنما كانوا قادة المجتمع وقاموا بدورهم التخصصي في نواحي الحياة المختلفة، وكان القضاء هو أقصى ما اقترب فيه العلماء من حيّز السياسة، وقد رفض البعض منهم حتى هذا القدر من الاقتراب.

 

وعبارة فصل الدين عن الدولة عبارة متهافتة، ففصل السياسية عن دينٍ ما –بمعنى القيم والمبادئ السامية- أمر غير ممكن أو غير مرغوب به، فلا بدّ للسياسة أن تستبطن قيماً ما، سواءاً أكانت قيم العَلْمانيّة الحداثية أو قيم الديانات السماوية أو قيم غيرها من ديانات العالم الكبرى كالبوذية والهندوسية، أو خليطاً من هذا و ذاك؛ أو تبقى سياسة الوحوش بلا أي ضابط أخلاقي.

 

وأحد أوجه الإشكال في إطلاق مصطلح (الدولة الإسلامية) على الحكم الذي يستهدي الإسلام هو أنّ النموذج الإسلامي متمركزٌ في المجتمع لا في الدولة.  ولا تعدو أي تجربةٍ سياسيةٍ للمسلمين أن تكون محاولةً للتقرّب من المثال وتجتهد بشرياً في تحقيق مقتضياته ولا يمكن أن ترتقي إلى كمال الإسلام ونصاعته.

 

ثم ما هو المعيار الذي يسمح بإطلاق وصف الإسلامية على دولةٍ ما، فهل كانت دول الأمويين أو العباسيين أو العثمانيين (إسلامية) برغم تضييق نطاق الشورى والإخلال في تطبيق صفةٍ أساسيةٍ للحكم الإسلامي؟  وبالطبع، لا يمكننا القول بأنها دول (غير إسلامية) بمعنى معاداة الإسلام، لأنّ هذه الدول برغم قصورها عن المثال الإسلامي قوّت شوكة المسلمين، وسعت على القيام بمصالح دنياهم، وفي سياقها قامت حضارةٌ تلهج بروح دينهم، فتمكّن المجتمعُ أن يبقى إلى حدٍّ كبيرٍ قريباً مما يصبو إليه من الـمُثل ومن استقامة نهج الحياة.  وما القول في أزمانِ عدم الاستقرار، فقد ظهر في الدولة المملوكية في بعض بقاعها حاناتٌ تبيع الخمر؟

 

الدولة هي التي تَدُول وتتغير من حالٍ إلى حالٍ.  ولو نظرنا إلى التاريخ المسلم، لوجدنا أنه لم يطلق سلفُنا الصالح على دوله صفة (الإسلامية)، برغم كلّ الجِدّية في محاولة تفعيل الرؤية الإسلامية.  فنقول خلافة أبو بكر وخلافة عمر…، أو نقول الخلافة أو الدولة الأموية والعباسية، ولا يُلصق بها لفظ الإسلام.  والفلسفة الحداثية هي التي تُعلي مرجعية الدولة فوق مرجعية المجتمع.  ولو سمحنا لأنفسنا بأن نخطئ ونُدخل في السياسة العباراتِ الفقهية لمجال العبادات، لقلنا إنّ مصطلح (الدولة الإسلامية) مصطلحٌ طارئ وأنه (بدعة)!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين