الشهيد عبد المنعم كمال

الشهيد عبد المنعم كمال

كتبها: ضياء الدين البرهاني

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:

قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم) أولئك هم مشاعل الإسلام وشموسه التي أضاءت بدمائها سراج الجهاد، وعبّدت بأجسادها دروب القتال في سبيل الله، أولئك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأولئك الذين اتبعوهم بإحسان، واقتدوا بهداهم، وساروا على نهجهم.

ومن أولئك بطل من أبطال الإسلام الذين تعجز حروف اللغة ومفرداتها أن تعبر عنهم، وتقصر الأقلام عن كتابة أمجادهم الذين ضحوا بكل ما يملكون من أجل دينهم ووطنهم، لكي يهنأ الناس بعز الإسلام ورغيد العيش: البطل العظيم عبد المنعم كمال -رحمه الله وجعله في أعلى عليين- أحد الفتية الذين حملوا الراية بقلوبهم قبل أن تحملها أيديهم.

الولادة والنشأة:

في عام 1952م، ولد عبد المنعم كمال في أسرة  حلبية عريقة عرفت بالهدى والتقوى والصلاح، وكانت تقطن في بيت حلبي نموذجي  كبير وكأنه مدرسة في حي باب قنسرين العريق, ويتوسط البيت نافورة ماء من حولها الأزهار والورود وعدة أشجار، ومن هذه البقعة المباركة الطاهرة خرجت هذه النسمة المباركة المهاجرة إلى الله ورسوله على خطى المهاجر الأول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وعلى خطاه خطوة بخطوة نشأ وترعرع في كنف أسرة العلم والإيمان التي أرضعته الخلق والأدب وحب الدين.

 التزم عبد المنعم  في سنٍّ مبكر مع جماعة الإخوان المسلمين في حلب، ونشط في بداية شبابه في مجال الدعوة إلى الله عز وجل، فكان داعية مخلصاً لمستلزمات المرحلة، ولم يمنعه هذا النشاط من مواصلة تعليمه ودراسته الجامعية، بل تابع دراسته، وتخرّج من جامعة حلب كلية العلوم (ر ف ك).

صفاته الشخصية:

صاحب بشرة بيضاء ،وذو لحية خرنوبية كثة، نحيف الجسم، قوي الشخصية لا يظهرها إلا في  مواضعها, فترى قوة نفسه عند الشدائد، وفيما عدا ذلك فهو مرح الطباع كثير المزاح في حده الشرعي، وكان يعاني من نقص في بصره، لذلك يلبس نظارة طبية سميكة ولكنه أوتي بصيرة من حديد ينظر بها بنور الله.

تدريسه ونشاطه الدعوي:

امتاز عبد المنعم بالثقافة الواسعة، والعمل التنظيمي الحركي، وبعد تخرجه في الجامعة سلك طريق التدريس في عدة مدارس في حلب، وحرص على أن يكون على ثغر من ثغور الإسلام، وأن لا يؤتى الثغر من قبله، فاستثمر عمله التدريسي للدعوة إلى الله عز وجل، فكان يحض الطلاب على الصلاة والتمسك  بالدين، وقد كان جندياً مخلصاً من جنود الدعوة, وظهرت آثار هذا العمل المبارك أثناء تدريسه في المدرسة الشرعية في عفرين، فقد أوتي أسلوباً جذاباً في التدريس وبراعة في التفهيم، فاستقطب الطلاب من خلال هذا الأسلوب، وكان يطعّم درسه بشيء من الدعوة، حتى سبب له ذلك مشكلة مع الموجه والمسؤول عن شبيبة الثورة في المدرسة، وكان يتفرس في الطلاب ويختار المؤهلين منهم للدعوة، ويهديهم بعض الكتيبات الدعوية، ويرسلهم إلى شيوخ الاخوان ومن هو قريب من مدرستهم الدعوية في حلب كالشيخ محمد الحجار، والشيخ طاهر خير الله، والشيخ عبد الله علوان، والدكتور محمد رواس قلعه جي.

محنة السجون:

هاج بحر الظلم وماج وطغى وارتفع وانقض على هرم الإخوان الذي صار له عشرات السنين يبنى، فانقض عليه انقضاض الخنازير على الضحية، وتكالب عليه تكالب الضباع على الفريسة، وأخذهم على حين غرة، واعتقل زبدة وصفوة وعلية أهل السنة والجماعة في سورية، وهو ما كان يسعى إليه في الأصل ويبحث عن فرصته المناسبة لضمر هذا الهرم التاريخي الضارب أساسه في أعماق الشام لألف وأربعمائة سنة! ولم يدر هذا لأحمق الغبي أنه ما أخذ إلا قطعة من حجر من أعظم  صرح عرفته الحضارة الإنسانية فما ناله  اليوم إلا ما نال القرامطة من قبله! فباء بما باء به اليوم، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح، ولا يبقى إلا صرح الإسلام الذي لا يكسر ولا يدحر ولا يتطاول شاء من شاء وأبى من أبى، ولوكره الكافرون، ولو كره المشركون، ولو كره من كره.

وفي هذه الأزمة نال عبد المنعم نصيبه من هذا الكرب والمحنة القاسية نتيجة اعتراف أحد الشبان عليه تحت وطأة سياط الجلاد، فألقي القبض على عبد المنعم، وأودع هو وأخوه رضوان في سجون المجرمين، وقد نال رضوان نصيبه كذلك من جرعات التعذيب حتى كسرت رجلاه تحت التعذيب، وكان العذاب الأشد لعبد المنعم سواء في الأفرع الأمنيَّة، أو في سجن حلب المركزي، وقد صبر عبد المنعم على التعذيب كصبر بلال من أجل أن يؤثر حياة إخوانه وحريتهم على حياته وحريته، وتدرع بدرع الإيمان والصبر والاحتساب، ولو شاء لأنهى هذا العذاب واعترف على إخوانه، ولأتى بسيل عظيم من شبان المسلمين لكثرة علاقاته المتشعبة، ولنشاطه التنظيمي الهائل سواءٌ كانوا من أقرانه أو أعلى منه أو أدنى لكن الله ثبّته، ولم يكن في قضيته إلا هو والشخص الذي اعترف عليه، ومع أنه مشط بأمشاط الحديد وتميّز لحمه عن عظمه ولم ينبس ببنت شفة على إخوانه، وانتصر على إرادة المعتدي، والذي كان يتولى تعذيبه عنصر  فرع أمن الدولة المنتدب إلى سجن حلب وهو كردي ضخم الجسم كالثور، ذو شاربين كبيرين يقال له: شيخو، ومندوب الأمن العسكري يقال له: عطا، وقد مات تحت يد هذا المجرم الكثير من الأبرياء.

نشاطه في السجن:

كان عبد المنعم فارساً حقاً فروسية لا تعرف الجبن والخور، وهو صاحب عزيمة لا تلين، يتفقد إخوانه في السجن، يسلم على هذا، ويسأل عن أخبار ذاك،  يجمع بينهم ويؤلف بين القلوب، ويحرص على أن لا يكون تشنج بين الإخوة داخل المهجع، ويروّح عن الشباب وبالأخص الداخل الجديد يتلقفه ويواسيه ويخفف عنه، ويملأ عليهم السجن سروراً، ويطبخ لهم الطعام الطيب، وقد أوتي نفساً طيباً في إعداد الطعام، فكان يعده لأبناء غرفته وهي الغرفة الثالثة في الجناح في الطابق الأول(1-1-3) وعددهم ما بين الخمسة وعشرين والثلاثين، ولم يكن ينافسه أحد في الطبخ إلا الأستاذ عبد الله الشاوي دير الأوقاف والمدرسة الشرعية في عفرين، وشخص آخر من إدلب، وكانت تربطه علاقات طيبة مع جميع نزلاء الجناح، وكان يقال له في ذلك الوقت: جناح الإخوان، ولم ينقطع عن حلقات العلم في السجن، فكان له نشاط علمي ودعوي في السجن، وينظم الحلقات العلمية للمختصين كل بحسب اختصاصه، وكان حديثه هو عن الأمور الحركية وكيفية الدعوة.

ترحيله إلى تدمر واستشهاده هناك:

لم ير أثر الحزن على عبد المنعم إلا مرة واحدة عندما أطلق سراح دفعة كبيرة من الإخوان، ولأول مرة يعهد عنه الضعف أثناء توديعه لإخوانه، ويطلب منهم الدعاء، وكأن حدسه حدثه أن هذا هو آخر لقاء يلتقي بإخوانه، وأن الملتقى الجنة إن شاء الله، وقد أحس إخوانه بما انتابه من همٍّ فحاولوا أن يخففوا عنه لكن دون جدوى، وبالفعل تم تحويله مع مجموعة كبيرة من الشباب منهم: العقيد فيصل سيرجية إلى تدمر فكان من أوائل الشهداء الذين تعطرت بدمائهم صحراء تدمر، فقد أعدم هناك لم يقم بأي عمل عسكري، غير أن ما قام به عبد المنعم كان أشدَّ عليهم من عمل السلاح والمدافع  والرشاش، وظن الأغبياء أنهم سيئدون الدعوة المباركة في صحراء تدمر، فإن كانت صحراء تدمر قد غيّبت هذا الجسد غير أنها لم تغيّيب منه إلا ما غيبته الصحراء الليبية من جسد شيخ المجاهدين عمر المختار، وبقيت دماؤهما شموساً ساطعة تنير الدين والدنيا، وتضيء دروب الدعوة والجهاد، ومنارة حقد وبغضاء على الأيدي الآثمة والقلوب الحاقدة على الإسلام.

ركزوا رفاتك في الرمال  لواءا          يستنهض الوادي صباح مساء

يا ويحهم نصبوا مناراً من دم           يوحي إلى جيل الغد البغضاء.

في الصورة المرفقة : صورة التقطت للشهيد في سجن القلعة بدمشق :  الصف الأول: أحمد حلاق في اليمين ، وفي الوسط: عبد المنعم كمال ، وفي اليسار: عبد القادر ناصر.
 وفي الصف الثاني: أنس إدلبي حفيد الشيخ سعيد ، وقي اليسار: نائل عثمان. وفي الصف الثالث: على اليمين محمد دانيال ، وكلهم من شهداء سجن تدمر رحمهم الله