ذكرٌ جميل لأيامٍ في القدس والخليل (12)

 

 

استيقظنا في الصباح للسحور، ولقيت زيدا، فذكَّرني أن اليوم لي عدة دروس: درس في (صفحات من صبر العلماء) قبل العصر، ودرس في (إحياء علوم الدين) بعد العصر، وموعظة بعد التراويح، ثم مجلس مع النساء للأسئلة والأجوبة.

رقدنا بعد الفجر، واستيقظت قبيل الساعة العاشرة، واغتسلت، وقرأت شيئا من القرآن الكريم، وطالعت دروسي.

حارة السعدي:

خرجنا من الفندق في الساعة الحادية عشرة والنصف، ودخلنا في المدينة - على العادة - من باب الساهرة، وزرنا في حارة السعدي مسجدا صغيرًا يسمى مسجد الشيخ مكي، على يمين الداخل إلى مدينة القدس القديمة تجاه المسجد الاقصى، حيث يقابل مدرسة القادسية، وأصل بنائه مقام الولي الشيخ مكي، وبجانبه مبنى مكتوب عليه (وقف الحاج نعيم الخطيب التميمي بو سعدي).

ثم دخلنا شارع عقبة القادسية، وعلى يميننا عقبة البسطامي، وفي نهاية الشارع طريق المجاهدين.

في رحاب المسجد الأقصى:

ودخلنا في رحاب المسجد الأقصى الساعة الثانية عشرة إلا الربع، وعلى يسارنا من مدخلنا من باب الملك فيصل مدارس ورياض الأقصى الإسلامية العلمية مدرسة الحرم الشريف مدرسة للأولاد أسست سنة 1980م.

قبة عشاق النبي:

وأمام المدرسة، أي في الجنوب الشرقي من باب فيصل، قبة عشاق النبي صلى الله عليه وسلم، أنشئت في عهد السلطان العثماني محمود الثاني سنة 1233هـ / 1817م، واسمها الحالي من اعتياد بعض الصوفية الاجتماع للذكر تحتها، وهي عبارة عن مبنـى مفتوح الجوانب، مربع الشكل قائم على أربع دعائم، به محراب حجري مجوف جميل، ويصعد إلـى صحن هذه القبة من خلال ثلاث درجات من الجهتين الغربية والشرقيّة.

قسم الشؤون النسائية:

وأمامها قسم الشؤون النسائية في قبة صغيرة حولها أشجار الزيتون، اسمها قبة سليمان نسبة إلى الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، ويرجع بناؤها الحالي إلى العهد الأيوبي عام 600هـ/1203م، وجرى ترميمها في العهد العثماني.

باب الغوانمة:

ثم دخلنا من باب الغوانمة، وهو أحد أبواب المسجد الأقصى، يقع في الجهة الشمالية الغربية منه، أنشأه الوليد بن عبد الملك بن مروان.

باب الناظر:

وقصدنا باب الناظر أو باب المجلس، لأن بجانبه المجلس الإسلامي العلمي، وأمام باب الناظر سبيل البسيري من أصحاب صلاح الدين الأيوبي، وبجانبه سبيل آخر بني سنة ثلاث عشرة وستمائة، يقع هذا الباب في الرواق الغربي للمسجد، شيد في العصر الأموي، وتم توسيعه في العهد المملوكي.

باب الحديد:

ومررنا بباب الحديد في الرواق الغربي بين بابي الناظر والقطانين، وبقربه ضريح الشيخ حسين بن علي مطلق الرصاصة الأولى جد ملك الأردن عبد الله الأول.

باب القطانين:

وزرنا باب القطانين، وهو من أجمل وأضخم أبواب المسجد الأقصى، يقع في منتصف سوره الغربي تقريباً بين بابي الحديد شمالا والمطهرة جنوبا، ويؤدي إلى سوق القطانين (بائعي القطن) المحاذي له، والذي يعد واحداً من أقدم أسواق القدس الباقية على حالها، جدد هذا الباب الأمير تنكز الناصري أيام السلطان المملوكي محمد بن قلاوون سنة 737هـ/1336م، وقام بترميمه المجلس الإسلامي الأعلى سنة 1929. وفي باب القطانين ضريح أحمد حلمي عبد الباقي، وأمامه سبيل.

ضريح محمد علي جوهر:

وبجانب ضريح أحمد حلمي ضريح المجاهد العظيم مولانا محمد علي الهندي تغمده الله برحمته توفي بلندن في النصف من شعبان ودفن بالقدس الجمعة الخامس من رمضان سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف، ومكتوب على باب ضريحه: يبشرهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم.

ومحمد علي جوهر من كبار قادة الهند السياسيين، عرف بمناصرته للمسلمين، ودافع عن الخلافة العثمانية في المحافل الدولية، وفي سنة 1919 شكّل مع أخيه جمعيّة الخلافة التي ناضلت لمناصرة الخلافة العثمانية، وانسحب من حزب المؤتمر الوطني الهندي بعد رفضه مطالب قدمها المسلمون، وفي الرابع من يناير 1931 توفي بلندن عندما كان يحضر مؤتمرا سياسيا، ونقل جثمانه للقدس حيث شيّع في موكب مهيب ودفن في المسجد الأقصى بناء على وصيته، وتقديرا من مفتي القدس لجهوده في مناصرة فلسطين والذود عن مقدساتها.

المدرسة الأشرفية:

وبين باب القطانين وباب السلسلة المدرسة الأشرفية التي بناها السلطان الملك الأشرف أبو النصر قايتباي سنة 875ه في العهد المملوكي. 

والمدرسة قسمان: قسم داخل المسجد الأقصى المبارك، والآخر خارجه، والذي داخله عبارة عن طابقين: الأول كان مصلى الحنابلة في المسجد الأقصى المبارك في أصله، ويستخدم جزء منه الآن كمقر لقسم المخطوطات التابع لمكتبة المسجد الاقصى، والجزء الأكبر منه هو مقر ثانوية الأقصى الشرعية للبنات تأسست سنة 1998م، وفيها أيضا قبر الشيخ الخليلي، وبعض الأجزاء الصغيرة التي تستخدم دورا للسكن، وأما الطابق الثاني فمتهدم السقف وهو مسجد المدرسة ويرجع انهدام هذا الجزء لزلزال سنة 1346هـ/1927، وعلى الجدار الباقي من جدرانها الكلمات الآتية منقوشة بالنسخ المملوكي الجميل وبأحرف كبيرة: "أمر بإنشاء هذه المدرسة الأشرفية مولانا السلطان الملك الأشرف أبو النصر قايتباي عز نصره بتاريخ مستهل شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثمان مئة وذلك في أيام مولانا المعز الأشرف الناصري سيدي محمد الخازندار ناظر الحرمين الشريفين عظم الله شأنه."

قبة يوسف:

وأمام قبة الصخرة في جانب القبلة قبة صغيرة تسمى قبة يوسف مكتوب عليها: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلواته على محمد النبي وآله، أمر بعمارته وحفر الخندق مولانا الملك السلطان صلاح الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين خادم الحرمين الشريفين وهذا البيت المقدس أبو المظفر يوسف بن أيوب محيي الدولة أمير المؤمنين أدام الله أيامه ونصر أعلامه في أيام الأمير الكبير سيف الدين علي بن أحمد أعزه الله في سنة خمس وثمانين وخمسمائة للهجرة النبوية.

ولعل هذه أول شهادة تاريخية لاستعمال لقب خادم الحرمين الشريفين.

صلاة الظهر في المسجد القبلي:

ثم اتجهت إلى المسجد القبلي وتقدمت قريبا من مقام الإمام، وأذن للظهر، وصليت ركعتين سنة، وكان الفصل بين الأذان والإقامة كبيرا، وأكَّد الإمام أن من قدر على القيام فصلاته جالسا على الكراسي باطلة، وأقيمت الجماعة بعد الساعة الواحدة بقليل، فصلينا الفرض، ونهضت بعد السلام للخروج، إذ سمعت إقامة أخرى فتذكرت أنهم يقيمون العصر مباشرة للمسافرين، فعددهم كبير جدا، أما الإمام الراتب فيصلي العصر في وقته.

وصلت إلى الفندق حوالي الساعة الواحدة والنصف، واسترحت قليلا، واستيقظت في الساعة الثانية والنصف، واستعددت لدروسي.

درس صفحات من صبر العلماء:

بدأت الدرس في الساعة الثالثة والنصف، وذكَّرت الحضور بضرورة طلب العلم، وأن يتعمقوا فيه مكتسبيه من ذويه المتخصصين فيه المعلِّمين له، ولا يأخذوه من الوعاظ والمذكرين، فلكل شيء أهله، وشرحت لهم أن التعليم في الإسلام يعني تنشئة الأشخاص وتطويرهم حكماء، بينما التعليم في المعاهد العلمانية ليس إلا تدريب خبرة ومهارة تساعد في كسب المال والثراء، وبسطت لهم معنى قوله تعالى (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) موضحا مواضع إطلاق كلمات إن شاء الله، وما شاء الله، والحمد لله، وتبارك الله، وسبحان الله، كما أزحت الستار عن حقيقة الإيمان بالغيب.

درس إحياء علوم الدين:

وبدأت درس الإحياء في الساعة الخامسة والنصف في المصلى المرواني، ملخصا لهم معنى الحنيفية، ومغزى إمامة إبراهيم عليه السلام، ومؤكدا أن لا يكون في المسجد ما يستجلب عناية المصلي إليه، فالمسجد مكان إنماء الحنيفية، ومصرحا أن الله تعالى خلق الدنيا مع الملذات، وهذه الملذات ليست بحرام، ولكن يجب على العبد أن لا ينغمس فيها، بل يتوجه إلى الله تعالى زاهدا فيها، فكل شيء مسخر للإنسان، والإنسان خلق لعبادة الله وحده.

وأنذرتهم ونفسي بالموت، وكانت في المسجد صلاة جنازة بعد العصر، فقلت: إن هذه الجنازة مذكرة وواعظة، وعلَّمتهم كيفية أداء صلاة الجنازة، وأن الفرض فيها أربع تكبيرات عند أبي حنيفة وأكثر الأئمة، وما تسن قراءته بين كل تكبيرتين.

وقرأت لهم من الإحياء أقوال التابعين وأتباعهم عن الموت، منها: قال عمر بن عبد العزيز لبعض العلماء: عظني، فقال: لست أول خليفة تموت، قال: زدني، قال: ليس من آبائك أحد إلى آدم إلا ذاق الموت وقد جاءت نويتك، فبكى عمر لذلك، وكان الربيع بن خثيم قد حفر قبرا في داره فكان ينام فيه كل يوم مرات يستديم بذلك ذكر الموت، وكان يقول: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة واحدة لفسد،

وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: إِنَّ هَذَا الْمَوْتَ قَدْ نَغَّصَ عَلَى أَهْلِ النَّعِيمِ نَعِيمَهُمْ فَاطْلُبُوا نَعِيمًا لَا مَوْتَ فِيهِ، وقال عمر بن عبد العزيز لعنبسة: أكثر ذكر الموت فإن كنت واسع العيش ضيقه عليك وإن كنت ضيق العيش وسعه عليك، وقال أبو سليمان الداراني: قلت لأم هرون: أتحبين الموت؟ قالت: لا، قلت: لم؟ قالت: لو عصيت آدميا ما اشتهيت لقاءه فكيف أحب لقاءه وقد عصيته.

وأجبت في الأخير عن أسئلة، منها كيف ينفع الدعاء للميت مع أنه ليس من عمله، وهل يجوز الدعاء لغير المسلمين من الأقارب.

موعظة بعد التراويح:

نبهتهم في موعظتي بعد التراويح إلى عظمة الصلاة، وأن الصلوات المفروضات يجب أن تؤدى في المساجد وفي الجماعة، وما في ذلك من الأجر والثواب، وما في ترك ذلك من الوعيد، وفضل هذه الصلوات في المساجد الثلاثة، وأما صلوات السنن والنوافل فالأفضل أن تؤدى في البيوت وفي غير جماعة، وذكرت سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء في ذلك.

مجلس مع النساء:

وفي الساعة الثانية عشرة حضرت مجلسا للنساء، أجبت فيه عن أسئلتهن عن طلب العلم، وكيف يعثرن على المعلم الخبير الناصح، والسفر في سبيل العلم، وهل يجوز للمرأة أن تسافر وحدها، وعن التصوف والطريقة والبيعة، والالتزام بمذهب معين، والاختيار من بين المذاهب، والمسح على الجوربين، فتقدمت إلي بعضهن شاكرة، وقالت: إنك يسَّرت لنا أمر الدين محببا له إلينا، قلت: الدين يسر، ولا يريد ربنا منا إلا ما ينفعنا، وهو أرحم الراحمين.

انظر الحلقة 11 هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين