ذكرٌ جميلٌ لأيامٍ في القدس والخليل (7) 

بيت لحم: 

ودَّعنا مدينة الخليل في الساعة الثالثة والنصف يتصدانا تفتيش قوم لنا كارهين معادين مبغضين، ولحرمة الله في خلقه منكرين ولحقه فيهم جاحدين، ولحا الله من لا ينفع الود والرفق عنده، ومن حبله إن مُدَّ غير متين، ومن هو ذو لونين ليس بدائم على خلق، وهو خوان أثيم، ووصلنا إلى بيت لحم حوالي الساعة الرابعة والنصف، تقع على بعد كيلو مترين جنوب مدينة القدس، ويعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد، وكان أول من سكنها هم الكنعانيون، وسُميت بيت لحم بهذا الاسم نسبة إلى إلهتهم لحمو التي ترمز إلى الخصوبة، وتحتل مدينة بيت لحم مكانةً تاريخيةً مهمةً جراء الاعتقاد السّائد بأن عيسى عليه السلام وُلد فيها، وافتتحها المسلمون في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضمن فتوح بلاد الشام، وخرجت من أيديهم أيام الحروب الصليبية، ثم حررها السلطان الصالح الغازي صلاح الدّين الأيوبي بعد معركة حطين، وهي الآن تحت إدارة السلطة الوطنية الفلسطينية.

كنيسة المهد: 

طفنا داخل بيت لحم متجهين إلى كنيسة المهد ومسجد عمر بن الخطاب، نفذنا إلى الكنيسة اوتنقلنا من خلال أجنحتها ومرافقها، وهي من أقدم كنائس العالم، يقصدها النصارى ويعظمونها تعظيما، وسُميت بذلك نسبة إلى مهد المسيح عليه السّلام، بناها الإمبراطور قسطنطين سنة 335م شبيهةً بالمعابد والهياكل الرّومانية، وتحتوي على المغارة التي - زعموا - ولد فيها المسيح، وتتزين بالرّخام الأبيض الذي يغطي أرضيات صحن الكنيسة من الدّاخل، ويحيط بالكنيسة التي تقام بها الطقوس الدينية أديرة كثيرة تتولاها الفرق المسيحيّة المختلفة. 

واستوحشنا كثرة الصور فيها والتماثيل للمسيح وأمه مريم عليهما السلام، وما أقرب هذه الكنائس إلى معابد الكفار الوثنيين، وما أبعدها أن تكون مقاصد للمنتمين إلى الأنبياء والمرسلين، فليس يذكر الله فيها كثيرا ولا قليلا، وما أشد أهلها إعراضا عن الهدى وصدودا، فليس همهم الصراط المستقيم ولا الإيمان بالله والإسلام لرب العالمين، قوم جاهلون بالعبادة والنسك، والإخبات والتأله، وآمنون من يوم الحساب يوم يقضى بين العباد، فريق في الجنة وفريق في السعير، وما أصعب أن تروم لغيهم زوالا، ولرشدهم ارتجاعا، نزل الفرقان ولم يزد هؤلاء القوم إلا ضلالا، كما أن النهار يزيد كل ذي بصر بصرا، ويزيد الخفافيش عمها وسوء نظر، والعاقل اللبيب من ليس يغتر بكونٍ مصيره للفساد، وليس يسجد لخلقٍ نهايته الأفول والممات، اللهم اهدنا سواء الصراط وجنبنا الشرك وأهله.

تحقيق مكان ولادة عيسى عليه السلام: 

أنا متشكك في ولادة عيسى عليه السلام في هذا المكان، وأرى النصارى زوَّروا قصة ولادة المسيح بهذا المكان ليخلقوا مركزا يربطون أنفسهم به، كما أخطأوا في تاريخ ميلاد عيسى بن مريم عليهما السلام، وكما افتروا الكذب في قولهم إنه ابن الله فجاؤوا إفكا وبهتانا كبيرا، وإني سأمُر في رحلتي هذه بأمكنة كثيرة تنسب إلى عيسى عليه السلام وأخالط النصارى فأحببت أن أنقل ما يقوله القرآن في مولده: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا، قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا، فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا، فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا، فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا، ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ، (مريم 16-34). 

تنص الآيات الكريمة أن عيسى عليه السلام عبد لله وأنه ابن مريم، خلق من غير أب وأن مثله كمثل آدم الذي خلق من غير أبوين، وأن أمه كانت معتكفة في محراب في المسجد الأقصى، وأن ذلك المحراب كان شرقياً، وأنه عندما حملت مريم ابتعدت عن أعين أهلها مكانا قصيا، وأنه جاء بها المخاض إلى جذع نخلة، وأن عيسى عليه السلام ولد في الصيف أيام التمور. 

فالأرض التيي ولد عيسى عليه السلام فيها أرض ذات نخل قصية في الشرق، ويبعد أن تكون بيت لحم لأنها جنوب بيت المقدس، وليست بمكان النخل، ولعل مولده مكان شرقي القدس في جهة أريحا، فهي مدينة النخل، وقد اشتهرت منذ عصور قديمة بتوافرها فيها.

مسجد عمر بن الخطاب: 

طلعنا من الكنيسة ومشينا إلى مسجد عمربن الخطاب، وهو أقدم مسجد في مدينة بيت لحم، ويقع في ميدان المهد قرب الكنيسة، والمساجد المنسوبة إلى عمر بن الخطاب وغيره من الخلفاء الراشدين كثيرة في العالم، ويزعم أهل مدينة بيت لحم أن هذا المسجد تم بناؤه ذكرى لزيارة الخليفة عمر بن الخطاب بعد أن كان قد أصدر مرسوما تعهد السلامة لجميع النصارى ورجال الدين واحترام مقدساتهم. وتم تجديد بنائه خلال الحكم الأردني سنة 1955م. 

ويتكون المسجد من ثلاثة طوابق، العلوي يحوي المصلى، والأوسط يضم الميضأة وسائر المرافق إضافة إلى المحكمة الشرعية التي تقتطع جزءًا منه، بينما يوجد في الطابق السفلي محلات تجارية. ويرمز إلى المسجد بالنخلتين الطويلتين اللتين تقفان بشموخ أمام بابه.

عودتنا إلى القدس: 

لما خرجنا من بيت لحم صادفنا ازدحاما كبيرا، فالجنود يفتشون كل سيارة تدخل القدس، والتفتيش دقيق وطويل، وعجبنا من الخوف الذي يسيطر عليهم، ويا همجية قوم حولوا ربيع الناس سنة جمادا، ووا أسفا على ضعفنا نحن المسلمين فقد هانت الخطوب علينا كأنا صرنا نمنحها ودادا، مصطبرين على الضيم والمنقصة، ومقرين للذل مذعنين، وإذا داهمت الرزايا والدواهي قوما فأهون شيء عليهم ما تقوله العواذل. 

رجعنا إلى الفندق في الساعة السابعة، فاسترحنا قليلا، وأفطرنا في الفندق، وصلينا التراويح في المسجد، ونمت الليل متذكرا النكبة التي يمر بها في فلسطين أهلها، وما تستوي مكارم قوم نبعت من الإيمان والتقى ودعاوي قوم نبتن مع البقل نباتا، أغالب دمعي ثم يغلب جاريا، ومن لم يسل دمعا على الظلم يظلم.

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين