هل التمني جائز شرعا؟

ما تزال المغالطات العلمية أو الفكرية أو التربوية تروج عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عبر منشور مقروء أو مسموع أو مرئي. 

وهو أمر مؤلم لما يعنيه ذلك من تجهيل وتضليل للعامة والسطحيين، واستجهال للمثقفين.

وآلمُه عندما ترى من أولئك المثقفين مَن يشرب الشبهة المعروضة ويصفق لها وينشرها مغتبطا بها، وربما شفعها بعبارة: "معلومة رائعة أول مرة أسمعها."

"انشر لتوعية الناس بالحقيقة" ... إلى غير ذلك من إلباس الباطل ثوب الحق القشيب.

ومن ذلك ما انتشر في الأيام القريبة الماضية من مقطع فيديو مأخوذ من مقابلة تلفزيونية مع الدكتور مبروك عطية، المعروف على نطاق واسع من خلال أسلوبه المميز في برنامجه الديني الاجتماعي "الموعظة الحسنة"

وفي المقطع المذكور ينهى الدكتور مبروك عن "التمني" بالحاح، وعن قول "ليت" ويدعو إلى أن نستبدل بها "لعل" بدعوى أنّ الرجاء يكون في الممكن، وأما التمني فلا يكون الا في المستحيل.

ثم بنى على ذلك فهما باطلا حدّ العجب، حين زعم أن قولك لصاحبك: أتمنى لك السعادة. معناه ان تقول له: الله لا يسعدك.

وقد شاهدتُ هذا الفيديو للدكتور مبروك عطية، وعجبت مما جاء فيه، فأقول تعقيبا عليه:

لا يُسلَّم للدكتور مبروك هذا الكلام، لا من حيث أصلُ المعلومة، ولا من حيث الأحكامُ والإسقاطاتُ التي رتبها عليها، والتي تبدو وكأنها مُحكَمة راسخة رسوخ الجبل.??

ولكنها جبل من رغوة ما يلبث أن يتلاشى أمام أول نفحة من أرواح العلم.

ولعل الدكتور لو استحضر قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] 

لتبين له بيقين أنّ التمني قد يكون في الممكن. فإن الموت من الممكن، بل من المتحتم الذي لا محيد عنه ولا مفر منه.

ولو تذكَّر الدكتور أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استعمل كلمة "ليت" في الممكن، في حديث صحيح، لما شنّ هذه الحملة منذ ثلاثين سنة - كما يقول - وهي في غير محلها.

الحديث الذي أشيرُ إليه رواه البخاري ومسلم بسندهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: أرِق النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: *"ليت"* رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة. إذ سمِعنا صوت السلاح. قال: من هذا؟ قال: سعد بن أبي وقاص يا رسول الله، جئتُ أحرسك. فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا غطيطه.

فالنبي صلى الله عليه وسلم قد تمنى أمرا ممكن الوقوع، بل قد وقع فور تَمَنِّيه.

واللافت حقا ترجمة الباب والكتاب اللذين أورد البخاري رحمه الله فيهما هذا الحديث.

فإن فيهما تقويضا لكل ذلك الصرح من الوهم الذي شيده الدكتور مبروك.

ومعلوم أن خلاصة فقه البخاري لأحاديث صحيحه قد صاغها في تراجم كتبه وأبوابه، حتى قال جمع من الأئمة: (فقه البخاري في تراجمه).

أورد البخاري هذا الحديث تحت باب سماه: (باب قوله صلى الله عليه وسلم: *ليت كذا وكذا*

وهذا الباب يأتي ضمن أبواب كتاب سماه البخاري: (كتاب التمني)

ومن الأبواب التي ترجم بها البخاري في هذا الكتاب:

* باب ما جاء في التمني ومن تمنى الشهادة.

* باب تمني الخير.

* باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو استقبلت من امري ما استدبرت.

* باب تمني القرآن والعلم.

* باب قول الرجل: لولا الله ما اهتدينا.

* باب ما يكره من التمني.

* باب كراهة تمني لقاء العدو.

إلى غير ذلك من الأبواب والأحاديث التي جاءت فيها، والتي تغطي أحكام التمني بالتفصيل والتدليل والتمثيل، وتنسف هذا التعميم بالمنع من التمني الذي قرره الدكتور عطية في هذا الفيديو.

ولذلك أقول بإصرار: إن الدكتور مبروك عطية لم يكن موفقا فيما قال حول قضية التمني، لا من حيث المعلومة، ولا من حيث الاستنتاج.

أما من حيث المعلومة فإن قوله: (التمني في المستحيل، والرجاء في الممكن.) غير مسَلَّم، لأن هذه معلومة مبدئية يُلَقًّنُها المبتدئون في طلب العلم، بالنظر إلى أن الغالب في الاستعمال أن التمني في المستحيل والرجاء في الممكن.

ولو كان المتحدث من المبتدئين في طلب العلم لعذرناه في أنه فرح بمعلومة جديدة فأحب أن يصحح كلام الناس على وَفقها.

وأما أن يكون المتحدث هو الأستاذ الدكتور مبروك عطية، الأكاديمي الأزهري المعتد بأزهريته فهذا عجيب، لأنه لا بد أنه وقف على ما ينقض هذه المعلومة في نصوص الوحيين، وعلى أقوال العلماء في التفريق بين التمني والرجاء. 

وسبحان من لا يغفُل ولا ينسى.

وأنا أنقل للقارئ ما قاله – في التمني والرجاء – الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري عند شرحه لكتاب التمني من صحيح البخاري.

قال الحافظ: والتمني إرادة تتعلق بالمستقبل، فإن كانت في خير من غير أن تتعلق بحسد فهي مطلوبة، وإلا فهي مذمومة. وقد قيل: إنّ بين التمني والترجي عموما وخصوصا، فالترجي في الممكن، والتمني في أعم من ذلك. وقيل: التمني يتعلق بما فات. وعبر عنه بعضهم بطلب ما لا يمكن حصوله. وقال الراغب: قد يتضمن التمني معنى الود، لأنه يتمنى حصول ما يود. انتهى من فتح الباري لابن حجر- دار المعرفة [13 /217]

فأنت ترى أن الحافظ ابن حجر رحمه الله قد ذكر نحوا من خمسة أقوال في التمني، أحدها ما ذكره الدكتور مبروك، والذي عبّر عنه الحافظ بقوله: وعبر عنه بعضهم بطلب ما لا يمكن حصوله.

ولو كان هذا القول الذي جعله الدكتور مبروك قولا أوحد، لو كان غير منقوض بصريح القرآن وصحيح الحديث كما بيّنّا، لكان له ما ذهب إليه.

فأما وأنه منقوض بالوحيين، فإننا نقول وبكل ثقة: إن المعلومة التي بنى عليها الدكتور مبروك أحكامه غير مسَلَّمة.

وأما أن استنتاجه غير مسلَّم، فإنه على فرْض التسليم بالمعلومة التي بنى عليها فإن بناءه واهٍ باطل مردود قولا واحدا.

فلا يصح في دلالة اللغة ولا في الاستعمال الفصيح أن من قال لصاحبه: أتمنى لك السعادة. فمعناها أنه يقول له: الله لا يسعدك. 

أو أن من قال لعروسين: أتمنى لكما السعادة. فمعناها دعاء باستحالة السعادة وبوقوع الطلاق بينهما. 

أو أن من كتب لطلابه في ورقة الامتحان: أتمنى لكم النجاح. فهو يدعو عليهم بعدم النجاح!!! 

هذا كلام مردود باطل جملة وتفصيلا، ليس له رصيد من العلم، ولا يقبله عاقل، ولم يقل به عالم، بل العلم ينقضه ويبطله. 

وقد سبق معنا ما نقله الحافظ ابن حجر من قول الراغب: قد يتضمن التمني معنى الود.

وسبق معنا ما نقلناه من تراجم البخاري وقوله: 

* باب ما جاء في التمني ومن تمنى الشهادة.

* باب تمني الخير.

* باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو استقبلت من امري ما استدبرت.

* باب تمني القرآن والعلم.

* باب قول الرجل: لولا الله ما اهتدينا.

فهل يقول عاقل إن البخاري أراد بهذه الأبواب الدعاء بضد ما جاء فيها؟!!!

أقول: حتى لو كان الخير الذي تتمناه مستحيلا في العادة، كأن تقول لمن أشفى على الموت من مرض لا يرجى برؤه: أتمنى لك الشفاء. فإن هذا يعني أنك تودّ لو حصل له ذلك المستحيل. ولا يقول عاقل بأن قولك معناه: الدعاء عليه بالموت لأن الشفاء لا يرجى عادة في مثل هذه الحالة.

فكيف إذا كنت تتمنى السعادةَ لصاحبك، أو النجاحَ لطلابك، والسعادةُ والنجاحُ ممكنان؟!!!

وقد جاء في حديث الصحيحين في قصة بدء الوحي قولُ ورقة بن نوفل: (يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك.)

ولا يقول عاقل فضلا عن عالم: إنّ ورقة يدعو هنا بأن يموت قبل المبعث، أو إنه يسأل ربه أن لا يعيده إلى سن الشباب. 

بل العقل والعلم يقضيان بأن ورقة يحب ذلك وإن كان بعضه مستحيلا.

قال ابن حجر رحمه الله تعالى عند شرح هذا الحديث في الفتح: وفيه دليل على جواز تمنى المستحيل إذا كان في فعل خير لأن ورقة تمنى أن يعود شابا، وهو مستحيل عادة. فتح الباري لابن حجر- دار المعرفة [1 /26]

وأما استدلال الدكتور مبروك على ما ذهب إليه بقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] 

وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111]

وقوله سبحانه: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء: 123]

فإنه لا دليل له في تلك الآيات على ما ذهب إليه، لا من حيث المعلومةُ ولا من حيث تطبيقاتُها، وذلك أنه لا خلاف على أن الرجاء يكون في الممكن كما في آية الزمر، ولا خلاف على أن التمني قد يستعمل في المستحيل، كما في آيتي البقرة والنساء.

وإنما خلافنا في أمرين:

الأول: في إنكاره أن التمني قد يكون في الممكن. وقد أثبتناه بدليل القرآن والسنة.

والثاني: في دعواه أنك إن قلت: ليت كذا... فإنك تدعو بضده. وهي دعوى بلا دليل، ولا يقول بها عالم ولا عاقل.

وأما قوله في أواخر الفيديو: إن الله يقول للمجرمين افرحوا... 

فتساهل وتبسيط لا يسوغ إلا بتكلف تأويلٍ بعيد، ما كان أغناه عنه. غفر الله لنا وله.

والله أعلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين