يوم الرجيع مثل رائع لشهداء الإسلام

الشيخ: التهامي سليمان

للإسلام شهداء شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله، وبذلوا أرواحهم فداء عقيدتهم لا تروعهم رهبة الموت، ولا تخدعهم بهرجة الحياة، ولا ترتفع دماؤهم في موازين تفكيرهم وتقديرهم عن أن تكون سائلاً يخضب أرض الشرك بلونه القاني حتى يستقر في أرجائها الإيمان، وتنتشر في نواحيها شرائع القرآن.
للإسلام شهداء حقاً ولكني أعتقد أنهم متفاوتون بقدر ما هم عليه من الإخلاص لعقيدتهم، والتفاني في حب رسولهم، والنكوص عن مواقف المذلة والهان، وبين هؤلاء الشهداء أعلام سموا إلى مرتبة لا يتطاول إليها متطاول، وفي سجل الشهادة مثل رائعة تحرك حقائق الإسلام في القلوب الميتة، وتثير عناصر القوة في الأجسام الهامدة، وتبرز أعمق الأحاسيس لدى الألباب الغافلة، وهذه هي مثل الخلود وأصحابها هم الخالدون.
ليس بغريب أن يعد يوم الرجيع من أيام الله، ويخلد رجاله بين الأحياء من شهداء الإسلام، وليس بغريب كذلك أن تبرز فيه كل صغائر الإنسان المشرك الذي عمي عن الهدى، واستمرأ البغي، ووقع في الضلالات من غير ما رعي لعهد أو حفاظ على ميثاق، أو استشعار لمعاني الإنسانية.
وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم رهط من قبيلة تجاور قبيلة هذيل قالوا له: إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرؤوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث معهم النبي صلى الله عليه وسلم ستة من أصحابه على رأسهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه وخرج القوم حتى إذا كانوا على الرجيع وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز غدروا بهم واستصرخوا هذيلاً فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم فأخذ المسلمون أسيافهم ليقاتلوا.
حقيق بنا أن نقف هنا قليلاً، بل أن نطيل الوقوف والتأمل والاعتبار، فليس وقوفنا إلا على حافة ميدان الشهادة، وليس تأملنا إلا في موقف هؤلاء الرجال وقد حملوا السيوف لا ليردوا الباغين عليهم بل لينافحوا عن القرآن وهديه وشرائعه الحقة التي يراد القضاء عليها، وليس اعتبارنا في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحريص على نشر دين الله أحسن الظن بهؤلاء البغاة فأجابهم إلى ما طلبوا ولكن العبرة البالغة في أن تهوي الإنسانية المشركة إلى هذا الدرك وتجتمع كثرة في ديارها على قلة تحمل إليها مشعل الهداية والرشد.
قالت هذيل لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما نريد قتلكم ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم، وقال ثلاثة منهم وهم مرثد بن أبي مرثد رئيس القوم، وخالد بن البكير، وعاصم بن ثابت: والله لا نقبل من مشرك عهداً، ولا عقداً أبداً وقاتلوا حتى قتلوا. ورغب عن القتال عبد الله بن طارق وزيد بن الدثنة، وخبيب بن عدي، فأسلموا أنفسهم ووقعوا في الأسر وخرج بهم القوم إلى مكة ليبيعوهم.
جدير بالباحث المنصف ألا يحمل رغبة هؤلاء الثلاثة عن القتال فراراً من الشهادة، أو رضاء بالمذلة والهوان، أو استمساكاً بأهداب الحياة فلعلهم قد رأوا في تصرفهم هذا رأياً هو أوفى في نظرهم بأداء المهمة التي عهد إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بها.
إنهم قلة تفجأها كثرة غادرة فلا عليهم أن يحتالوا، ولا عليهم أن يضنوا بأرواحهم لأنهم أجناد دين جديد لما يستقر له السلطان في الأرض فإن كانوا يرغبون في الشهادة فيجب أن يكون استشهادهم عاملاً من عوامل الذيوع لعقيدتهم والتمكن لدينهم، وليس أدل على هذا مما فعل هؤلاء الثلاثة رضوان الله عليهم، فقد أقدموا على الشهادة حين تعذر عليهم تحقيق الهدف الذي رموا إليه، وحين لم يجدوا في طوقهم ما يخدمون به دينهم ويؤدون رسالتهم على وجه يرضي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عنهم.
لقد استشهدوا كما استشهد إخوانهم من قبلهم، أما عبد الله بن طارق، فقد انتزع يده من غل الأسر وأخذ سيفه فرماه القوم بالحجارة حتى قتلوه، وأما زيد بن الدثنة فقد ابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف رأس الكفر الذي قتله بلال رضي الله عنه في غزوة بدر الكبرى، وقد أسلمه إلى مولاه نسطاس فقتله، وأما خبيب بن عدي فقد حبس حتى انقضت الأشهر الحرم ثم قتلوه.
وإذا كان في موقف مرثد بن أبي مرثد الغنوي وصاحبيه رضي الله عنهم الذين آثروا الشهادة أول الأمر لأنهم أعلنوا أنهم لا يقبلون من مشرك عهداً، ولا عقداً أبداً ما يدل على إيمان حق وعقيدة صادقة وبذل في ذات الله يستأهل أرفع منازل الشهداء فإن في موقف خبيب بن عدي وصاحبيه الذين لانوا وأسلموا أنفسهم من الروعة والبطولة والإخلاص للدعوة والداعي ما يستحق الإعجاب والإكبار والتقدير.
فقد حاول عبد الله بن طارق بعد الخلاص من الأسر أن يكر على القوم فأمطروه وابلاً من الحجارة أورده مورد الشهادة.
وقدّم للقتل زيد بن الدثنة فقال له سفيان بن حرب: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك، فقال زيد: والله ما أحب أن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، فعجب أبو سفيان وقال: ما رأيت من الناس أحداً يحبه أصحابه ما يحب أصحاب محمد محمداً ثم قتل.
وخرجوا بخبيب بن عدي ليصلبوه فقال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين ففعلوا فصلى ركعتين أتمهما وأحسنهما ثم قال للقوم: لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعاً من القتل لاستكثرت من الصلاة فلما أوثقوه قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا ثم قال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً، فأخذت القوم الرجفة من صيحته، واستلقوا إلى جنوبهم فرقاً من أن تصيبهم دعوته ثم قتلوه.
كان طبيعياً أن يحزن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه لما أصابهم، ذلك أنهم لم يكونوا طليعة لجيش يغير على ديار الباغين، ولم  يكن أسراهم أسرى حرب يخشونهم على أصنامهم وقوميتهم فيحملهم ذلك على ما حملوا عليه من أبشع أنواع الغدر، وأحقر ألوان الجبن وفقدان الإنسانية، وكان طبيعياً أن تتحرك ألسنة المنافقين في أفواههم تعلن عن شماتة بالغة قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أصيبت السرية يوم الرجيع قال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا لا هم قعدوا في أهليهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم فأنزل الله تعالى فيهم: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ] {البقرة:204}.وأنزل الله فيما أصاب أولئك الشهداء من الخبر:[وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ] {البقرة:207}. وهل هناك أعظم من الذين يشرون أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله والقيام بحقه حتى يدركهم الموت في عقر دارهم أو يتخطفهم الردى مرتحلين عن أهليهم وأولادهم.
بعث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى هذه البقعة من الأرض دعاة إلى توحيد الله ونبذ ما يعبد من دونه، وهداة إلى قوم أطبقت عليهم الجهالة وأحاطت بهم الظلمات ليستنقذوهم من جهالتهم ويخرجوهم من ظلمتهم، وليزيدوا بهم موكب الموحدين الصادقين قوة ومنعة فوردوا مورد الموت على أيديهم وتخضبت بدمائهم رمال الصحراء.
فإذا كان هذا الحادث يدل على ما لقيت الدعوة الإسلامية من عنت، وما ذهب في سبيلها من ضحايا، فإنه كذلك ليعلن عن شريعة في الغدر والبغي والقسوة دعا إليها الشرك ومثلها على صفحة الحياة في عصروها المختلفة، مثلها الشرك مع أصحاب الرجيع، ومثلها قبل أن تسمع جزيرة العرب دعوة الإسلام في عهود الأنبياء السابقين، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين نال منهم أذى المشركين وسألوه النصرة: قد كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيشق نصفين، ثم يمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، وسيظل الشرك يدعو إليها ويمثلها ما دامت هناك دعوة إلى الله، ودعاة مخلصون يدعون الناس إليها.
وبعد: فليست العبرة في قصة أصحاب الرجيع أنها تمثل لوناً من ألوان الإيمان الخالص والبطولة النادرة، والمعاني الإنسانية الصادقة حبب إلى أصحابها الاستشهاد في سبيل عقيدتهم، ولا أنها تمثل لوناً من ألوان الغدر والبغي والجبن، حمل البغاة الجبناء الغادرين على الانتقام من قوم تطوعوا للإرشاد ورسم طريق الخير والدلالة على معالم الحق انتصاراً لطواغيتهم وأصنامهم وتشفياً من قوم يخالفونهم في العقيدة وحسب بل يجب أن توحي هذه القصة إلى المجاهدين من أبناء الإسلام الفناء في سبيل إعلاء كلمة دينهم ما دام على وجه هذه الأرض مشركون متعصبون يريدون أن يطفئوا نور الله، ويلبسوا على المخدوعين من أتباعهم حقائق الدين الخالص.
[يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] {التوبة:33}.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة منبر الإسلام رجب 1367هـ المجلد الرابع.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين