يومئذ يفرح المؤمنون

انتصر الفرس على الروم، ففرح مشركو مكة؛ لأنهم وثنيون مثلهم، بينما كان المسلمون يحبون انتصار الروم على الفرس لأنهم أهل كتاب، فلما نزلت سورة الروم مبشرة بانتصارهم جهر بها بعض المسلمين، حتى تراهن بعضهم مع المشركين على المدة. فلما انتصروا أسلم ناس كثير(1) .

ما للمسلمين ولانتصار الروم النصارى الذين سيخوضون معهم حروبا طاحنة إلى قيام الساعة! إنها تربية لنا على الفرح بحصول الخير مهما صغُر، والمدافعة بالمتاح الضئيل حينما تقلّ الحيلة، فإنه في حالات الضعف والهزيمة والنكسة تخور القوى والعزائم، فتغور الفرحة والبسمة، فيأتي الفرح بأي مكتسب مشروعٍ ليعيد اكتشاف قوة النفس وضعف العدو، ويدافع اليأس والقنوط، ويعالج الإحباط والاكتئاب.

فإذا شُرع الفرح في حدث هامشي للمسلمين، ليس فيه إلا مجرد التفاؤل، فكيف يكون فرحنا بذلك الطوفان(2)  البطولي الجهادي العظيم الذي صدم بني صهيون، فأخذهم بغتة، واجتاح تحصيناتهم، وأثخن فيهم، وأسر جندهم، وكشف عوارهم، وأربك أعوانهم وأنصارهم، وأفسد خططهم من بعد علوّهم وفسادهم في الأقصى تمهيدًا لهدمه، وإحكام خناقهم على أهل الحق استعدادا للبطش بهم، بمؤازرة حلفائهم من أهل الكفر والنفاق.

{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ}  ينصر المغلوبين المستضعفين بقوته وحكمته، فعاش المسلمون لحظات نادرة عزيزة من الفرح والعزة والكرامة، والشماتة بنكبة العدو من بعد امتداد جبروته!

على أن من المسلمين من تنغصت فرحته؛ خشية أن تكون المعركة تغريرا من الباطنيين القتلة أهل النفاق والتقية، أو خوف استغلالهم النصر ليجدوا لهم موطئ قدم في أولى القبلتين. إلا إن الأمر الأكثر إقلاقا والذي يجب حذره يتمثل في حصول الجفوة في صفوفنا، ووقوع الجدل، والقعود عن النصرة.

مجازر العدو تهز النفوس السوية فكيف بأهل الإسلام والقضية! ولعل مما تتزن به المشاعر والتصورات معرفة أن الدماء مداد النصر، وأن السلاح ضرورة للحق، وأن الانتصار في معركة لا يعني كسب الحرب ولا حصول الفتح الذي هو محصلة انتصارات وانكسارات على مدى زمني طويل، وأن الذي يتحمل مسؤولية الصورة الكلية وتحريك المسارات المتعددة هو الأمة بمجموعها، لا الميداني وحده في خندقه المحاصر.

وإذا كان استحضار الصورة الكلية ضرورة للوعي، فإنه من الناحية الأخرى أيضا مقوّم أساسي للفاعلية الجماعية التي تتكامل فيها المسؤوليات باختلاف المواقع والتخصصات. فاعلية لا مكان فيها مطلقا لانتظارٍ يصنف أصحابه ضمن دوائر المحرومين، من أولئك (المعوقين) و(المرجفين) و(المبطئين) و(القاعدين)  وأمثالهم.

أولى الناس بالفرح يوم الفتح هم العاملون المواصلون العالمون بأن الانتصار الكبير إنما هو حصيلة جهود تراكمية طويلة في معارك متنوعة ضمن مجالات متعددة، وأن ما يحصل من خلل يتحمله الجميع، خصوصًا المتقاعسون القاصرون عن التصحيح السليم، وكذا الرافضون للاستماع والتفاعل الصادق، فإنهم في الوزر سواء. وإن الضعف والغفلة والفُرقة والهزيمة التي نعانيها صناعة مشتركة، من برأ نفسه منها ربما كان أكثر الناس إيغالا فيها.

ما أعدل من وضع نفسه مكان أخيه، فاجتهد في تفهّم واقعه، وسعى في تحصيل الفقه الدقيق لنوازل الحدث الكبير، وقام لله عز وجل في نفسه ومع خاصته بالشورى الحقيقية لحمل واجب الوقت. وعندها تتسع لهؤلاء دائرة الممكن.

تلك سمة أنصار الحق الذين لا تزيدهم الشدائد إلا شدة "فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا "، بل لا تورثهم المجازر إلا غبطة لشهدائهم وتوقا لمقامهم (قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (3).

حينها تعم الفرحة بكل مكتسب إيجابي يحصل عليه مسلم يدافع عن دينه في أقاصي الدنيا، ونكتشف من قدراتنا الحقيقية ما يحطم الصورة الوهمية المصنوعة لنا عن قدرات العدو المحتل والقاتل.

 

1-  راهنهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فيما أخرجه الترمذي ح 3193 والذي يليه.

2-  هذا المقال مساهمة في معركة (طوفان الأقصى) 22 ربيع الأول 1445، 7 أكتوبر 2023م.

3-  أخرجه الطبري في تفسيره، بإسناده عن أنس بن النضر رضي الله عنه، لما أشيع مقتل النبي صلى الله عليه وسلم في أحد.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين