يمكرون.. ويمكر الله

مقدمة:

لقد خلق الله الخلق؛ فكانوا أصنافًا وأنواعًا، منهم مَن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمنٌ، فاشترى الآخرة بدنياه، وكان منهم أناسٌ همّهم الدّنيا، خبثت نفوسهم، وساءت أخلاقهم، ولم يعرفوا إلّا الشّرّ والفساد {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ*وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 204-207].

ولقد كان أعداء الإسلام منذ أن بعث الله رسوله محمّدًا صلى الله عليه وسلم يكيدون له، ويحاولون القضاء عليه وعلى دعوته {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120].

{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].

واستمرّ الصّراع إلى أن ضعف المسلمون في العصور المتأخّرة، فغزاهم الاستعمار، واستولى على الكثير مِن بلادهم، وقسّمهم إلى دويلاتٍ متفرّقةٍ، وبثّ سمومه وأحقاده فيهم، غرس فيهم الاستعمارَ الفكريَّ، فتأصّل فيهم الإلحاد في العقائد، والفساد في الأخلاق، والإغراق في الشّهوات، و تجنّدت لذلك منظّماتٌ يهوديّةٌ ومنصّرةٌ؛ تكيد للإسلام والمسلمين بشتّى الوسائل والأساليب، وقد استخدمت هذه المؤسّسات قومًا مِن جِلدتنا، ويتكلّمون بلغتنا، استأجرتهم لتنفيذ مخطّطاتهم في المسلمين، واستغلّوا قادة العرب ليكونوا عملاء لهم في تنفيذ سياستهم، وتحكّموا بوسائل الإعلام في البلاد، ودسّوا فيها البرامج الفاسدة السّافلة، الّتي تدعو إلى الارتداد عن الدّين، والتّحلّل مِن الأخلاق الفاضلة، ولكنّ أعداءنا لم يصلوا إلى هذه الدّرجة إلّا بسبب غفلتنا عن ديننا، وإغراقنا في دنيانا، فإلى متى نُغزَى في عُقْر دارنا؟! لا نستطيع ردّ كيد أعدائنا! فلنُعد النّظر في أنفسنا، ولنعملْ لخدمة هذا الدّين، فنرصَّ الصّفّ، ونوحّد الكلمة، ونكون حربًا على عدوّنا بكلّ ما نملك، باللّسان والقلم، واليد والسّنان، ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، معتصمين بالله وحده، واثقين بأنّه سيُذهِبُ مكرهم، وينصرنا عليهم إن صبرنا واتّقينا {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].

 

1- كيد الأعداء ومكرهم

لقد أخبرنا الله في كتابه العظيم أنّ أعداءنا يمكرون بنا وبديننا في كلّ وقتٍ وحينٍ، لا يملّون ولا يسأمون، منذ أن أرسل الله رسله إلى النّاس، ليبلغوهم دين ربّهم، ويخرجوهم مِن الظّلمات إلى النّور، وأعلمنا أنّه لهم بالمرصاد، وأنّ مكرهم الخبيث لا يغيب عنه، فهو مطّلعٌ عليهم، ومحبط كيدهم {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46].

ولقد جاءت النّصوص القرآنيّة الكثيرة التّي توضّح أنّ المكر السّيّئ كان صفةً متأصّلةً في أقوام الرّسل جميعًا، فها هم قوم نوحٍ عليه السلام -أوّل رسولٍ إلى الأرض- يمكر به قومه، ويحدّثنا كتاب ربّنا عن بعض مكرهم به {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح: 21-22].

ويقصّ الله لنا قصّة مكر قوم صالحٍ عليه السلام، وكيف حاول تسعةٌ مِن مجرميهم اغتياله {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النّمل: 50-51].

ولقد بيّن لنا بعض مكر اليهود بعيسى عليه السلام، فقال: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54].

ويختم الله الحديث عن مكر الأقوام برسلهم بمكر الكفّار بسيّد الخلق محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، حيث لم يسلم مِن مكر الكفّار بجميع أنواعه، ولقد صوّر القرآن ذلك؛ فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

ولكنّ الله حفظ نبيّه، وربط على قلبه، وطمأنه بأنّه ناصره، ثمّ اشتدّ عليه مكر الأعداء في المدينة، فكان مكر المنافقين مِن الدّاخل، حيث كانوا يخادعون النّاس، ويمكرون بالمؤمنين سوءًا، ومكر اليهود النّاقضين للعهود والمواثيق مِن الخارج، حيث تحالفوا مع كفّار مكّة، ولكن أمام كلّ هذه المؤامرات والخطط الخبيثة بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتًا صابرًا محتسبًا واثقًا بوعد ربّه، مستشعرًا معيّته وتأييده، لا يعتريه خوفٌ ولا رعبٌ مِن مكرهم وخبثهم، مستحضرًا قوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النّحل: 127].

فإن كنّا نتعرّض اليوم لمكر الأعداء وكيدهم الخبيث، وتآمر الدّويلات علينا؛ فلا نقلق، فقد مكر أعداؤنا بمَن هم خيرٌ منّا، فحفظهم الله ونصرهم، فلنحسنْ ظنّنا بربّنا اقتداءً بنبيّنا صلى الله عليه وسلم، فإنّ ربّنا ناصرنا ومهلك عدوّنا {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].

 

2- واجبنا تجاه مكر عدوِّنا

إنّنا اليوم نواجه مكر قوى الشّر والطّغيان مجتمعةً علينا، وإنّ مِن الواجب أمام هذه المؤامرات والمكائد الخبيثة الّتي يدبّرها أعداؤنا بنا، أن نوقن أنّها بإرادة الله، فهي وإن كانت ثقيلةً علينا إلّا أنّ فيها الخير لنا {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216].

فالأمر كلّه بيد الله وحده، فجديرٌ بالمؤمن الّذي يَعمر الإيمان قلبه، ويَسكن اليقين فؤاده، ألّا يخاف إذا خاف النّاس، ولا يقلق إذا كاد الأعداء وخطّطوا، فلقد حدّثنا ربّنا عن قول موسى عليه السلام لمّا أحاط به الكرب مِن كلّ مكانٍ {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشّعراء: 61-62].

إنّها كلمةٌ مليئةٌ بالثّقة واليقين بالله وحده، قالها موسى فأتى بعدها الفرج، فانفلق البحر العظيم بضربةٍ واحدةٍ مِن عَصَاه، وتحوّل إلى طريقٍ يابسٍ آمنٍ {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الشّعراء: 63-66].

ولكم هي المكائد الّتي دبّرها كفار قريش للقضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دعوته، ومِن أبشعها: ما كان منهم يوم أن شعروا بالخطر الّذي بات يهدّد كيانهم بهجرته إلى المدينة، فقاموا يومئذٍ بعقد مؤتمرٍ عاجلٍ في دار النّدوة للقضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل فوات الأوان، ووافق جميعهم على قرار أبي جهلٍ الخبيث، الّذي أشار عليهم أن يجتمع مِن كلّ قبيلةٍ فتىً شابًّا جليدًا نسيبًا، ثمّ يُعطى كلّ فتىً منهم سيفًا صارمًا فيضربون محمّدًا ضربةً واحدةً فيقتلونه، ويتفرّق دمه في القبائل، فطوّق المشركون بيته في تلك اللّيلة، وباتوا متيقّظين لتحين تلك الفرصة المناسبة، وأمام هذا المكر الخبيث يأمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم بأن لا يبيت ليلته تلك في فراشه، ويخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن بينهم سالمًا، ويبلغ غار ثور بصحبة أبي بكر رضي الله عنه، ويصل القوم إلى فم الغار، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الْغَارِ، فَرَأَيْتُ آثَارَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، قَالَ: (مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا). [ 1 ]

ويُخلِّد الله هذا الحدث العظيم في كتابه الكريم، ليعلمّنا درسًا لا يُنسى في اليقين بالله، وعظيم العناية الرّبانية بأنبيائه وأوليائه، فيقول: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التّوبة: 40].

فلنتّق بخالقنا، ولنتسلّح بدعاء ربّنا، ليدبّر أمرنا، ويُبطل كيد عدوّنا كما وعدنا، وكلّنا ثقةٌ ورجاءٌ أن يعجّل ذلك لنا {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا *فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطّارق: 15-17].

 

خاتمةٌ:

إنّ النّاس في حال السّلامة والعافية يثبتون، ولكن إذا تعاظمت الفتن، واستحكمت المحن، وازدادت الشّرور، وكاد الكائدون، وتآمر المتآمرون، فلا يثبت إلّا مَن ثبّته الله مِن أفذاذ الرّجال، وإنّ المسلمين اليوم إزاء هذه المكائد والمؤامرات عليهم، وأمام هذه الفتن المتلاطمة، أحوج ما يكونون إلى استحضار هدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقد أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوذي أصحابه، وهُجّروا مِن ديارهم، واجتمعت عليهم قوى الشّرّ والطّغيان في ذلك الوقت، وما رأيناه متنازلًا أو مبدّلًا، ولا يائسًا أو محبَطًا، بل تحكي سيرته أنّه في حال المحن والفتن، واشتداد الكرب والبلاء، واجتماع النّاس عليه وعلى دعوته، يكون أشدّ ثباتًا وعزمًا، وأكثر تفاؤلًا واستبشارًا، وقد زخرت سيرته العطرة بأمثلةٍ كثيرةٍ على ذلك، فلنكنْ ثابتين على مبادئنا، رغم كلّ ما يُحاك بنا مِن مكائد ومؤامراتٍ، ولنكنْ واثقين بربنا، موقنين بوعده ونصره، مقتدين بإمامنا الأعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الفأل الحسن وحسن الظّنّ بالله، حيث حثّ أصحابه على الثّبات، وحكى لهم أخبار الثّابتين ممّن كانوا قبلهم، وبشّرهم بالنّصر رغم حالة الضّعف الّتي كانوا يعيشونها، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ). [ 2 ]

 

هوامش:

1 - صحيح البخاريّ: 4663

2 - صحيح البخاريّ: 6943

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين