يقظة الضمير المؤمن وموت قلب الفاجر

 

روى البخاري ومسلم عن عبدِ الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه حدَّث بحديثين: أحدِهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسه قال: (إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإنَّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا (أي: نحَّاه بيده فوق أنفه) ثم قال: لله أفرحُ بتوبه العبد من رجل نزل منزلاً، وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، حتى إذا اشتدَّ عليه الحرُّ والعطش أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع فإذا راحلته عنده).

المعنى:

لقد اشتمل هذا الحديث على شطرين:

الشطر الأول: تصوير للمؤمن اليقظ الوجدان، الحي الضمير، الشديد الخوف من الله تعالى، والمراقبة له سبحانه، الدقيق المحاسبة لنفسه، والمؤاخذة لها، وتصوير للفاجر المستهتر، لا يُبالي بالذنب يَرتكبه، ولا يتألَّم للخطيئة يقع فيها.

الشطر الثاني: تصوير لسعة رحمة الله وفتح باب التوبة ليل نهار، وحثّ للمؤمنين المذنبين على الإسراع إلى الرجوع من الذنب فوراً، والتسمك بأهداب التوبة توّاً.

معنى الشطر الأول:

يقول ابن أبي جَمْرة: إنَّ قلب المؤمن مُنوَّر، فإذا رأى من نفسه ما يخالف ما ينور به قلبه عَظُمَ الأمر عليه، والحكمة في التمثيل بالجبل أنَّ غيره من المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه، بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادة.

هذا وإنَّ المؤمن يغلب عليه الخوف لقوَّة ما عنده من الإيمان، فلا يأمنُ العقوبة بسببها، وهذا شأنُ المسلم أنَّه دائم الخوف والمراقبة، يَستصغرُ عملَه الصالح، ويخشَى من صغير عمله السيء.

أما الفاجر فإنَّه يَرى ذنوبه كأنها ذباب مرَّ على أنفه، فهو سهلٌ عنده لا يعتقد أنَّه يحصل له بسببه كبيرُ ضرر، كما أنَّ ضرر الذباب عنده سهل، ولذلك نحَّاه بيده، ودفعه عن أنفه.

وإنما كانت تلك صفة المؤمن؛ لأنَّه على يَقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة، ولأنَّ وجدانه حي، وضميره مُتيقِّظ.

والضمير: هو ذلك الذي يَهمس في أذن المرء لدى شروعه في كل عمل، ليقره عليه إن كان حسناً، وليبغِّضه إليه إن كان قبيحاً، أو يؤنِّبه من أجله إن كان قد وقع فعلاً.

فالضمير إذن هو السراج الوهَّاج الذي مَنحه الله تعالى في كلِّ فرد لكي يضيء له سبيل الحياة: [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ] {البلد:10}.

فلن يتمتَّع المرء بأشرف أنواع الحرية الروحانيَّة حتى يكون له في باطنه نور من وجدان حي، وضمير يقظ، يجري في كل أعماله على حكمه مسروراً راضياً لا مرغماً كارهاً، قال تعالى: [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا] {الأنعام:122}.

أما الذين لا ضمائر لهم بأن أطفأوا نورَ الله في باطنهم، فأظلمت وجداناتهم وأعتمت سرائرهم، فأولئك يجرون في عنان الشهوة، ويركبون مطيَّة الهوى، ولا يصدرون في أعمالهم إلا عن باعث من الأَثَرة وحبِّ النفس، ثم هم يعلمون أنَّهم على خَطأ، ولا يبرحون من لَذْع ضمائرهم في نَصب، وإن طول مُعاودة المنكر يفلُّ من شبا عزيمتهم، ويحطم من قوى مقاومتهم، حتى يصبح الإثم لهم عادةً، وارتكاب الجرائم لهم طبعاً، فهؤلاء قد ختم على قلوبهم، وطبع على أفئدتهم، قال الله تعالى في وصف بني إسرائيل: [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا] {النساء:155}.

وقال الله تعالى: [كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] {المطَّففين:14}. أي: غلب على قلوبهم كسب الذنوب، كما ترين الخمر على عقل السكران. فإنَّ الثابت في علم النفس أنَّ الإنسان إذا ما ارتكب أمراً من الأمور أو فكَّر فكرة ما، كان لذلك الأمر أو تلك الفكرة أثر في النفس، واتخذ له مجرى معيناً في الأعصاب والمخ، وكلما تكرر العمل أو الفكرة تعمَّق الأثر في الأعصاب، واتسع المجرى، وأَلِفَ الإنسانُ العملَ أو الفِكْرة، حتى تصبحَ السيئة عادةً، والفكرةُ المجرمة أو الطيبة طبيعة وحكماً.

روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ العبد إذا أذنب ذنباً نُكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك هو الران الذي ذكر الله تعالى في القرآن).

وقد كان شبابُ عصر النبوة مُتيقظ الضمير، نبيل الشعور، إذا ما أخطأ أسرع إلى تأديب نفسه بنفسه، ليكفِّر عن سيئاته، ويذهب عن خطيئاته، حتى يكون أهلاً لرضوان الله ورضوان رسوله.

من ذلك ما حَدَث عند حصار الرسول صلى الله عليه وسلم لبني قريظة سنة خمس من الهجرة، فبعد أن حاصرهم خمساً وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب، بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعث إليهم أبا لبابة كان من حلفاء الأوس، وبنو قريظة منهم، ولأنه كان مُناصحاً لهم، وذلك لأنَّ ماله وولده وعياله كانت في بني قريظة، فأرسله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان، يبكون في وجهه من شدة المحاصرة، فرقَّ لهم، وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن نَنزل على حكم محمد؟ قال: نعم. وأشار بيده إلى حلقه أي: أن حكمه الذبح.

وفي ذلك تنفير لهم عن الانقياد له صلى الله عليه وسلم، وفيه خيانة للسفارة التي بُعث من أجلها.

قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفتُ أني قد خنتُ اللهَ ورسولَه. ثم انطلق أبو لبابة على وجهه لم يأتِ الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وكان الوقت شديد الحر، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليَّ مما صنعت، ثم مكث مَربوطاً ست ليال لا يذوق طعاماً ولا شراباً، وكانت تأتيه امرأته في كل وقت صلاة فتحله للصلاة ثم يعود فتربطه بالأسطوانة.

فأنزل الله توبته على الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: [وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {التوبة:102}.

فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خارج لصلاة الصبح فحله، فقال أبو لبابة: يا رسول الله، إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبتُ فيها الذنب، وأن أنخلع من مَالي، فقال له صلى الله عليه وسلم: يجزيك الثلث أن تتصدَّق به) [أخرجه الحاكم، وأحمد وغيرهما].

فتصدَّق أبو لبابة رضي الله عنه وتابَ الله عليه، وطهر من ذنبه، فصفا ضميره، وزكت نفسُه، ورضي الله عنه ورسوله.

هكذا أصحاب الضمائر الحيَّة، والسرائر النقيَّة، من أولئك الشباب الذين ملأ الإيمانُ قلوبَهم، وأفعم اليقينُ نفوسهم، فكانوا يرون ذنوبهم كالجبال فوقهم يُهددهم وخطاياهم كالحبل فوق أعناقهم، لا يهدؤون حتى يتخلصوا، ولا تستقر نفوسهم حتى يبرأوا.

أما الشطر الثاني من الحديث فمعناه:

قال الخطابي: معنى الحديث أنَّ الله أرضى بالتوبة وأقبل لها.

وقال القرطبي في كتابه (الفهم): هذا مثل قصد به بيان سرعة قبول الله جلَّ وعلا توبة عبده التائب، وأنه سبحانه يُقبل عليه بمغفرته، ويعامله معاملة من يفرح بعمله.

وقال النووي: قد اتفقوا على أنَّ التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور، لا يجوز تأخيرُها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة: [إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] {النساء:17}.

والتوبة من مهمات الإسلام وقواعده المتأكِّدة، ولا يجب على الله قبولها إذا وجدت بشروطها عقلاً عند أهل السنة، لكنه سبحانه وتعالى يقبلها كرماً وفضلاً.

وتصحُّ التوبة من ذنب، وإن كان العبد مُصراً على ذنب آخر، وإذا تاب توبة صحيحة بشروطها ثم عاود ذلك الذنب كتب عليه ذلك الذنب الثاني ولم تبطلْ توبته.

ولقد أقسم الله سبحانه بالنفس اللوَّامة ثناءً عليها، وتنويهاً بشأنها، وهي النفس التي لا تزالُ تلوم ذاتها إذا قصَّرت، ولا تستقرُّ على حال من الخوف والقلق إذا ما زلَّت، فقال تعالى: [لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] {القيامة:1-2}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: مجلة لواء الإسلام، العدد 4، (السنة 11، 1376هـ، 1957م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين