يعبدون اللهَ على حَرف!

كم مرةً قرأنا قولَ الله سبحانه: (ومِن الناس مَن يعبد اللهَ على حَرْف. فإن أصابه خيرٌ اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسرَ الدنيا والآخرة. ذلك هو الخسران المبين). {سورة الحج: 11}.

إنها قضية ضِعاف الإيمان، يتعلّقون بزينة الحياة الدنيا من مال ورفاهية واستقرار اجتماعي وأمني... ويجعلون حظهم من ذلك هو معيار الرضا، فإن حازوا نصيباً وافراً من تلك الزينة رضُوا، وإن أصابهم بلاء، نتيجة انتمائهم لهذا الدين ضجروا وتذمّروا وأعادوا النظر فيما كانوا عليه من اتّباع منهج الله، لعلّهم يتخلّون عنه أو يختصرون منه: أليس الأفضل لي أن أدَعَ ما يُثبت عليّ أنني مسلم متديّن، وأعيشَ مطمئناً متوافقاً مع قوانين المجتمع وأعرافه؟ أليس هذا خيراً من أن أعرّض نفسي وأهلي لمحنٍ نحن في غنىً عنها؟!.

وفي مناسبة نزول الآية الكريمة يروي البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: كان الرجل يقدُم المدينة، فإن وَلَدت امرأته غلاماً ونُتِجَت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تُنتَج خيله قال: هذا دين سوء.

إنهما ميزانان مختلفان: ميزان مَن ملأ الإيمان قلبه، وعَلِمَ أن الحياة الدنيا دار ابتلاء، وأن الآخرة هي دار القرار... فثبت على دينه، وصبر على البلاء، وجاهد في الله حق جهاده... وميزان مَن غَفَلَ عن الآخرة وآثَرَ الحياة الدنيا واستعبدته شهواتها.

والقرآن الكريم يعرِض علينا مواقف من هؤلاء وهؤلاء:

اغترّ فرعون بما عنده من ثروة وسلطان فقال – كما أخبر عنه كتاب الله- : (أليسَ لي مُلْك مصرَ، وهذه الأنهار تجري مِن تحتي؟ أفلا تُبصرون؟! أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يُبين). {سورة الزخرف: 51، 52}.

وهذا يذكّرنا بأحد طُغاة العصر حين اعتَقَلَ أحدَ الدعاة ثم قال متبجّحاً: "إنه في الزنزانة زي الكلب".

وأبو جهل وزُمرته كانوا – كما قال الله تعالى عنهم- : (وإذا تُتلَى عليهم آياتنا بيّناتٍ قال الذين كفروا للذين آمنوا: أيُّ الفريقين خير مقاماً وأحسنُ نديّاً). {سورة مريم: 73}.

نعم - في ميزان الجاهلية- أبو جهل وزمرته أصحاب منزلة اجتماعية، وأبّهة ورياش... وهم أفضل من بلال وعمّار وسميّة وزنّيرة وأمثالهم من المستضعفين. وأما في ميزان الله فلا يَزِنُ الملأ من الكفار عند الله جناح بعوضة.

ولْنلاحظ أن الآية الكريمة جعلت هذا الذي يعبد الله على حَرف، ولا يطمئن إلا حين يُصيبه خير الدنيا... جعلتْه قد (خَسِرَ الدنيا والآخرة. ذلك هو الخسران المبين). أما خسران الآخرة فواضح، وأما خسران الدنيا فإن الذي أضاع إيمانه قد عاش كما تعيش البهائم: (والذين كفروا يتمتّعون ويأكلون كما تأكل الأنعام). {سورة محمّد صلّى الله عليه وسلّم: 12}. ومَن كانت حياته كحياة الأنعام فقد خسر الدنيا فضلاً عن خسارة الآخرة.

وأما الأنبياء وأصحابهم ومَن اتّبع هُداهم فقد ثبتوا على الحق، واختاروا ما عند الله، فهو خير وأبقى، وصبروا على البلاء، فعاشوا حياةً طيّبةً بمعيّة الله، ونالوا رضوانه وجنّته.

ولْيختَرْ امرؤ لنفسه: أن يعيش لله، راضياً بقضائه، مطمئناً إلى رحمته وعطائه، ويأتي آمناً يوم القيامة... أو أن يبقى في الظلمات ليس بخارجٍ منها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين