يا أيها الناس اربَعُوا على أنفسكم

تثور في كثير من المناسبات الدينية أحاديث تحض الناس على بعض الاعمال، مما يتحفز كثير من الناس الى نشرها والعمل على حض الناس عليها، والانكار على من يخالفها، وهذه الأحاديث قد يكون فيها إشكال من جهة الاسناد، أو من جهة المتن، كأن تتعارض مع ما هو أصح منها من حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

ومثل هذه الأحاديث ما ورد في شان الأيام العشر من ذي الحجة، حيث ورد أن "من رأى منكم هلال ذي الحجة، وأراد أن يضحي، فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي" وهذا الحديث رواه الامام مسلم عن أم سلمة.

وقد طعن في هذا الحديث أعلام وخرجوه على غير ما يذهب إليه الناس فمن هؤلاء الاعلام الإمام الطحاوي في كتابه الماتع شرح معاني الآثار وها أنا أنقل كلامه بحروفه حتى يستفيد منه من يريد الإفادة:

قال رحمه الله: حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: ثنا بشر بن ثابت البزار قال: ثنا شعبة عن مالك بن أنس، عن عمرو بن مسلم، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من رأى منكم هلال ذي الحجة، وأراد أن يضحي، فلا يأخذ من شعره وأظفاره، حتى يضحي»

حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا الليث، عن خالد بن زيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عمرو بن مسلم، أنه قال: أخبرني سعيد بن المسيب، أن أم سلمة، رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله. قال الليث: قد جاء هذا، وأكثر الناس على غيره قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فقلدوه، وجعلوه أصلا. وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بقص الأظفار والشعر، في أيام العشر، لمن عزم على أن يضحي، ولمن لم يعزم على ذلك. واحتجوا في ذلك، بما قد ذكرناه في كتاب الحج، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث بها، ثم يقيم فينا حلالا، لا يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم، حتى يرجع الناس. ففي ذلك دليل على إباحة ما قد حظره الحديث الأول. ومجيء حديث عائشة رضي الله عنها أحسن من مجيء حديث أم سلمة رضي الله عنها، لأنه جاء مجيئا متواترا. وحديث أم سلمة رضي الله عنها، لم يجئ كذلك، بل قد طعن في إسناد حديث مالك، فقيل: إنه موقوف على أم سلمة رضي الله عنها،

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن عمرو بن مسلم، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة، رضي الله عنها، مثله ولم ترفعه فهذا هو أصل الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها، فهذا حكم هذا الباب، من طريق الآثار. وأما النظر في ذلك فإنا قد رأينا الإحرام ينحظر به أشياء، مما قد كانت كلها قبله حلالا، منها: الجماع، والقبلة، وقص الأظفار، وحلق الشعر، وقتل الصيد، فكل هذه الأشياء تحرم بالإحرام، وأحكام ذلك مختلفة. فأما الجماع فمن أصابه في إحرامه، فسد إحرامه، وما سوى ذلك لا يفسد إصابته الإحرام فكان الجماع أغلظ الأشياء التي يحرمها الإحرام. ثم رأينا من دخلت عليه أيام العشر، وهو يريد أن يضحي أن ذلك لا يمنعه من الجماع فلما كان ذلك لا يمنعه من الجماع، وهو أغلظ ما يحرم بالإحرام، كان أحرى أن لا يمنع مما دون ذلك. فهذا هو النظر في هذا الباب أيضا، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين. وقد روي ذلك أيضا عن جماعة من المتقدمين

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، أن عطاء بن يسار، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبا بكر بن سليمان، كانوا لا يرون بأسا أن يأخذ الرجل من شعره ويقلم أظفاره في عشر ذي الحجة وقد احتج في ذلك أيضا بعض أصحابنا

بما حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن عثمان بن عبيد الله بن رافع، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن محمد بن ربيعة، قال: رآني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، طويل الشارب، وذلك بذي الحليفة، وأنا على ناقتي، وأنا أريد الحج، فأمرني أن أقص من شعري، ففعلت ولا حجة عندنا في هذا، لأنه لا يريد أن يضحي، إذا كان يريد الحج، فلا حجة في هذا على أهل المقالة الأولى لأنهم إنما يمنعون من ذلك من أراد أن يضحي. وحجة أخرى تدفع هذا الحديث أن يكون فيه حجة عليهم، وذلك أنه لم يذكر أن ذلك كان في عشر ذي الحجة، أو قبل ذلك 4/181 وما بعدها وقد تكلم على هذا الحديث بما لا مزيد عليه الامام ابن عبد البر فب التمهيد 17/233.

فعلى من يريد ان يأخذ بحديث عائشة فليفعل، ومن أراد حديث أم سلمة فيفعل، لكن عليه أن لا ينكر على من خالفه، ويصيح بالويل والثبور ويصرح بعظائم الأمور، ثم يقول للناس هذه سنة مهجورة، فليست كذلك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين