يا أحفاد صلاح الدين.. هذا تعريفنا للعربية

د. مؤمن مأمون ديرانية

كان كرد سورية من أوائل الذين أوقدوا نار الثورة، يوم وقف أهل القامشلي قبل غيرهم من أبناء سورية وقفتهم الشجاعة، فهم روّاد هذه الثورة المباركة.. ولم يتوقفوا من ذلك اليوم عن البذل والعطاء ووقفات الرجال..
 
فكيف يحدث أن يفارق الجماعة جمع من أهلنا الأكراد في مؤتمر إستنبول يريدون إزالة عنوان لغة القرآن من عنوان بلدنا؟ وكتاب الله عزيز علينا جميعاً.. ولغة كتاب الله لغتنا جميعاً مهما كانت أصولنا وأقوامنا.. غفر الله لكم يا قومنا.. وما أنتم إلا قومنا شاء حزب البعث أم أبى.
 
لكن الأكراد معذورون إذ ينظرون للتعريف المزوّر للعربية فيكرهونه؛ التعريف الذي حمله حزب البعث وتعسّف فيه وعتا وتجبّر نصف قرن من الزمان، عندما كان يزوّر تاريخ الأمة وحاضرها، ويعبث بفكرها وضميرها، ويبذر بذور الفرقة والعنصرية والطائفية ويفرّق بين أبناء البلد الواحد.
 
تعريف العربية عند حزب البعث تعريف عرقي عنصري نازي يرفضه العربي الشريف وينفر منه غير العربي. لكن العربية في تعريفنا الذي بيّنه رسول هذه الأمة الذي لا ينطق عن الهوى، هي عربية اللسان، وبموجبه صار سيبويه (الأعجمي في الأصل) أباً للعربية وليس واحداً من أبنائها وحسب، وهو وغيره من علماء العربية الأعاجم أصلاً عرب أكثر من كلّ العرب الأقحاح الذين أكلت العجمة ألسنتهم ومسّ التغرّب عقولهم، والذين علّموا أولادهم في مدارس أجنبية غير مبالين أن يكون لسانهم الأول أعجمياً، وإن درّسوهم بعض دروس العربية كما يدرسها الأعاجم يظنون أنهم بذلك قد أعذروا وما أعذروا. العربية عربية اللسان، وهو لسان كل من قرأ كتاب الله.
 
العربية هي عربية اللسان؛ لسان كل من عاش في هذه البلاد، ولسان كل من قرأ كتاب الله العزيز داخل هذه البلاد وخارجها، وهل هناك أعزّ من كتاب الله ومن حروفه وكلماته؟ هي كذلك منذ أن رفعنا الله من حضيض العصبية القبلية إلى سموّ أخوّة الإسلام، ومن العنصرية القميئة إلى الإنسانية الكريمة، وأخرجنا من ضيق العربية القومية إلى سعة وعالمية لسان العربية الذي خلّده الله بكتابه المعجز.
 
في الدين يحكمنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى" ويسود قول الله عز وجل: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، فلا يرفع الإنسان إلا استقامته وإحسانه ولا يخفضه إلا ظلمه وإساءته واتباعه هواه. وفي دولة العدل والحرية والمساواة التي نسعى لها الناس سواسية كأسنان المشط، وهم كاملوا الحقوق متساوون امام القانون، لا يعلو أحد على أحد بحزبه أو طائفته، وليس لأحد أن يظلم أحداً أو يسلبه حقاً من حقوقه.
أن تكون سورية عربية (وهي كذلك) لا يعني أن تضيق عن غير العرب، وكلنا عرب بتعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم طالما نطقنا بالعربية، وغير العربي في سورية مواطن سوري كامل المواطنة وأخ في الإسلام كامل الأخوّة، وله أن يحافظ على لغته وتراثه ويشاركنا فيها أيضاً، في نسيج جميل للأمة كلّها كما ظلّت طوال أربعة عشر قرناً من الزمان.
حدثونا ونحن صغار أن عائلتنا تنحدر من أكراد الموصل، وقد أسعدني أن أجد (ولو ظناً) ما يربطني بواحد من سادة هذه الأمة وأحد أعظم صانعي تاريخها؛ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وجزاه عن هذه الأمة خير الجزاء. ولا ننسى أن القائد العظيم قد أعاد بناء الأمة وأصلح تعليمها قبل أن يصنع النصر الذي صنعه، وكانت العربية من العلم الذي علّمه وهو يبني الأمة، لم يحل انتماؤه الكردي دون ذلك. لم نتوثق من أصلنا هذا، ولو توثّقت منه لما تخلّيت عن أصلي الكردي ولامتلأ قلبي اعتزازاً به. وهكذا كل إنسان يتمسك بأصله ويعتز به، ومن لا يعتز بأصله ويريد أن ينساه وينسيه الناس فإنما هو ضائع بلا أصل، لا هو أبقى أصله الذي كان له يعتز به ويعرفه الناس ولا هو كسب أصلاً جديداً يعترف الناس به. وسواء صحّ أصل عائلتنا أم لم يصحّ، فما كنت لأفرّط في أن أكون عربياً منتسباً للعربية، أعظم لغات الأرض التي اختارها الله لكتابه الباقي إلى قيام الساعة، ويمكنني أن أقول بفخر أني كردي عربي، ولا تعارض بين هذه وتلك.
في المجتمع الصالح يتفاضل الناس بتقواهم، وفي أوساط الناجحين يعرف الناس بإنجازاتهم، ولا تشغل الناس أصولهم وتصبح شغلهم الشاغل وموطن منازعاتهم إلا في مجتمعات الجاهلين وأوساط التافهين الفارغين.
إن ألسنتنا تنطق بالعربية، وقلوبنا يسكنها الإيمان بالله ورسوله، وعقولنا تلتقي مع عقول البشر وتقدّر كلّ الصالحين والأحرار وكرام الناس في كلّ زمان ومكان.
إخوتنا وأحبّتنا الأكراد، أحفاد سيّدنا صلاح الدين الأيوبي.. أنتم منا ونحن منكم.. تعالوا إلى كلمة سواء، وارجعوا إلى الصف الذي كنتم فيه، ليكون كالبنيان المرصوص، في الثورة التي كنتم من صنّاعها وفي الأمة التي أنتم منها ولها، ولا تكونوا صوت فرقة وخلاف يرحمكم الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين