ومضات وإشراقات من تاريخ الإسلام

 

د. أحمد فاضل
 
   ما أكثر ما أردد وأقول:إن تاريخ الإسلام وخاصة في عهد النبوة والخلافة الراشدة يمكن أن نرجع إليه في كل حالة مشابهة من حاضرنا لنكسو هذه الحالة برداء الماضي فيحيا الماضي بصورة الحاضر ويقتبس الحاضر جذوة الماضي,وبذلك نحيا حياة كريمة سعيدة جذورها راسخة في الأرض وفروعها وأغصانها في السحاب كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء..
 
فمن هذه الومضات والإشراقات:
 1_ما اعترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوع حتى خرج من بيته يوماً فالتقى أبا بكر ثم عمر فسألهما ما الذي أخرجكما؟ فقالا:الجوع فقال:وأنا ما أخرجني إلا الذي أخرجكما..!
 واليوم نرى الناس والزعماء يخرجون من بيوتهم ليسيروا على أقدامهم فتسألهم: ما الذي أخرجكم في هذه الساعة؟فيقولون:أخرجنا الشبع!
أخرجتنا التخمة امتلأت بطوننا من أصناف الطعام والشراب..فخرجنا لنُخرج أنفاسنا قبل أن تخرج أرواحنا..!!
 
 لقد أخرج رسول الله وصاحبيه من بيتهم الجوع..ويُخرجنا نحن الامتلاء والانتفاخ..سل الحكام والقادة عن قصورهم ومآكلهم ومشاربهم يخبروك الخبر اليقين..!
 قد يقول قائل غارق في دياجير الغفلة:وما العبرة وما الحكمة من أن يجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
 
 والحكمة ظاهرة في جانب ظهور الشمس وخفية في جانب آخر خفاء السر في الصدر..
 أما ظهورها فلأن الله تعالى يريد للمسلمين وخصوصاً الحاكمين منهم أن يعيشوا في جزء من حياتهم عيشة الفقراء وما يصيبهم من عنت ومشقة..وقد يقول قائل لكن الأنبياء ليسوا بحاجة لمثل هذا لأنهم في الأصل لا يغفلون عن مثل هؤلاء..والجواب أنهم وإن كانوا كما تقول لكنهم أسوة وقدوة لغيرهم ليقتفوا آثارهم ويحذوا حذوهم..فهو أي النبي يجوع لغيره و يفتقر لغيره وينصب لغيره..!
 وأما الجانب الخفي مما ذكرت آنفاً,فحتى تمتاز حياة الأنبياء وسيرهم عن حياة الملوك والزعماء..فسيرة رسول الله مثلاً لا يستطيع عاقل منصف أن يقول إنها حياة ملك أو طالب زعامة..وهل يجوع الملوك وهل يسكن الملوك في بيت من لبن سقفه من جريد وأرضه الحصير أو الحصباء..وهل يمتلك ملك أو زعيم أرضاً وأموالاً ومتاعاً وزخرفاً ثم يقول بيده هكذا وهكذا فلا يبقي لنفسه وأهله منها شيئاً ليجوع يوماً ويشبع يوماً..؟!
 
 وهذا الجانب لحظه عدي بن حاتم الطائي في رسول الله لما جاءه من الشام مختبراً..فقال له رسول الله:أسلم يا عدي تسلم,فقال معتزاً بنصرانيته:إني على دين..فقال:أنا أعلم منك بدينك! فلما سمع عدي هذه الكلمة تزلزلت أركانه فقال:فتضعضعت!فقال له رسول الله:ألست تأكل المرباع؟ ألست تفعل كذا وكذا؟! قال:بلى قال:فذلك محرم في دينك فكيف تفعله؟!وفي الطريق استوقفت امرأة رسول الله فوقف معها حتى قضى لها حاجتها فقال عدي في نفسه:والله ما هكذا تصنع الملوك!ثم انتهيا إلى البيت فألقى رسول الله وسادة لعدي وقعد على الأرض..فقال عدي:والله ما هذا بفعل ملك ثم طال الكلام بينه وبين رسول الله حتى أسلم...
 
 2_ومن هذه الإشراقات ما قاله سيدنا أبو بكر في خطبة تسلم الخلافة:وُلّيتُ عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوّموني..القوي فيكم ضعيف حتى آخذ منه الحق,والضعيف فيكم قوي حتى آخذ له الحق..
 
 ومن ذلك موقفه من إنفاذ الجيش الذي أمّر رسول الله أسامة بن زيد عليه لمجالدة الروم..وقد كان بعض الصحابة رأوا ألا يخرج الجيش من المدينة حتى لا يجترأ على اقتحامها المرتدون والمشركون والأعراب لكنّ أبا الصديق أبى أشد الإباء أن يحُلّ راية عقدها رسول الله وأن يُقيل قائداً أمره حبيب الله..فأنفذ الجيش واستأذن أسامةَ في البقاء في المدينة والتخلف للقيام بأمور المسلمين فأذن أسامة أمير الجيش لأبي بكر أمير المؤمنين في ذلك..!! وقد تجلت في هذا الفعل من أبي بكر حكمة بالغة,إذ قذف الله الرعب في قلوب المرتدين والمنافقين والأعراب والمتربصين بالمدينة شراً وقالوا لو لم يكن المسلمون في المدينة في منعة وقوة,لما أنفذ أبو بكر الجيش فهابوا أن يسعوا إليها..
 
 وأمرٌ آخر لا يقل أهمية عن الأول أن أبا بكر قال للناس بحاله وفعله لن أخالف رسول الله ولما تجف الدموع على رحيله ولما يجف الثرى على مرقده الطيب..فبذلك أكد على المتابعة للحبيب الأعظم للخلفاء من بعده..وأن الموت عنده أحب إليه من مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم...
 
 ومن أعجب ما ثبت عليه سيدنا أبو بكر محاربة مانعي الزكاة وقد رسخ على هذا رسوخ الجبال..وقال والله لو منعوني عقالاً كانوا يعطونه رسول الله لقاتلتهم عليه!! ولما كلمه عمر في قتالهم غضب وأخذ بتلابيب عمر وصاح في وجهه:أخوارٌ في الإسلام جبارٌ في الجاهلية..؟! فسقط قلب عمر من هذه المقالة..وقد قال عمر بعد ذلك: فعلمت من إصرار أبي بكر على قتالهم أن الحق معه..!
 
 وهذه كلمة ذهبية تسطر على جبهة التاريخ:إصرار أبي بكر دليل الحق!كيف؟والرجال يُعرفون بالحق ولا يُعرف الحق بالرجال؟!..
 
 نعم إن أبا بكر حين ذاب في الحق,صار الحق يُعرف به..صار ضياء..صار مناراً يُهتدى به..وقد قال تعالى(يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً..) لقد أُعطي الصديق نوراً خاصاً غدا يفرق به بين الحق والباطل,لذلك تخلفت القاعدة المعروفة في حقه رضي الله تعالى عنه..
 
 3_ومن هذه الومضات: ما قيل من أن بغداد في عهد المعتصم بالله قد غصت بالجند والمقاتلين حتى تأذى الناس منهم,فاجتمع الوجهاء والكبار وطلبوا لقاء المعتصم ليُخرج جنده من بغداد فكلموه فما استجاب لهم فقالوا:إذن نحاربك..! فعجب من مقالتهم وقال:أنى ذلك؟ فقالوا نحاربك بسهام الأسحار ندعو عليك في ظلمة الليل في السحر..! فارتعدت فرائص المعتصم لهذا الكلام وقال:والله لا طاقة لي بحربكم ثم بنى مدينة خاصة للجيش سماها(سُرّ من رأى) لجمالها التي صارت فيما بعد(سامراء)لما أصابها من دمار وخراب!
 
 والعبرة في هذا الكلام أن المعتصم كان يخاف الله سبحانه ويعظم شعائره,لذلك فعلت هذه الكلمة فعلها في قلبه..فقارنوا بينه وبين المجرمين اليوم ممن نسوا الله فعاثوا في الأرض فساداً وتقتيلاً وتدميراً وإرهاباً..لكن هل تظنون أن سهام الأسحار لن تصيبهم؟ لا والله لقد أصابتهم في نحورهم فهم أموات لكن لم تنكسر المنسأة بعد..وقريباً ستنكسر وسيخرون ساقطين مخذولين تدفنهم النعال التي تُلقى عليهم..!
 
 هذا التعظيم لشعائر الله من المعتصم فجّر في قلبه بركاناً من الغضب والحمية والنخوة لنداء امرأة مسلمة صرخت:واإسلاماه وامعتصماه!!فأين اليوم من ينتخي لصرخات آلاف من النساء والأطفال في بلاد الشام وقد أحاط بهم اللئام..لقد مات اسم النخوة في قلوبهم فلو سمعوها لقالوا:ما معنى هذه الكلمة ؟!فكيف يحيون حقيقتها ومضمونها؟!
 
 4_ومن هذه الإشراقات:ما وقع من استنجاد المعتمد بن عباد بأمير دولة المرابطين يوسف بن تاشفين في المغرب لما تكالب على الإمارات الإسلامية في الأندلس الفرنجة,فقال بعض الأمراء:لكن يوسف بن تاشفين طامع في ممالكنا فقال المعتمد كلمته التي حفرها التاريخ على صفحة الزمان:رعي الجمال خير من رعي الخنازير..
 
 ومعنى كلمته: أن أكون عبداً ليوسف بن تاشفين المسلم أرعى جماله في الصحراء خير من أن أكون عبداً لملوك الفرنجة أرعى خنازيرهم في حظائرها..!
 وكان ما أراد المعتمد فاستنجد بيوسف بن تاشفين فاستجاب وتحرك لنجدتهم وكانت معركة الزلاقة العظيمة التي دُحر فيها الفرنجة والتي مدت في عمر المسلمين في الأندلس أربعمئة سنة وكانت هذه المعركة عام 479 للهجرة كما أذكر!
 
 والعبرة ظاهرة من هذه الواقعة,فكم من حاكم عربي أو مسلم اليوم رضي برعي الخنازير وحمل الصلبان والسجود بين يدي سادته من الغرب والشرق,ولم يرض لا برعي الجمال بل بأن يتواضع لأخيه فخاب وخسر وذل وهان وبصق عليه الناس والزمان...!!


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين