ولدي صغيري

بالرغم من أن مكانة الولد في قلب والدَيه معروفة، ومعَزّته مسلّمٌ بها، غير أني ظللتُ في فترة ما قبل الإنجاب أعرف هذا الأمر نظريا ويغيب عني عمليا.

ولا زلتُ أتذكر ولا أنسى ذات مرة كان فيها والدي - حفظه الله ووالديكم - مريضا في أحد المستشفيات، وبحكم معرفة الناس به كانت تتوالى عليه الهدايا من العصير والفاكهة وما إلى ذلك، فكنت أراه لا يكاد يبقي له شيئا، حيث يعطيه إخواني الصغار حين يأتون أو يرسل به إليهم، فلمّا اعترضت عليه وحاولت إقناعه بإبقاء القدر الكافي ليتناولَه هو بحكم مرضه قال لي بصوت ممزوج بالعاطفة ومليء بالحكمة: (ستعرف ذلك حين يرزقك الله الولد) فظلت كلماته تتردَّد في مسمعي وأثرت فيّ غير أنها - بالنسبة إلي - لا تزال نظرية صِرفة، شأنها شأن القصائد والحكايات التي تتغنَّى بحب الأولاد وتعج بالعبارات الرنانة (فلذات الأكباد وغيرها) مما لا أراه سوى مبالغة في التعبير عن ذلك الحب، مما تسعه البلاغة العربية وتتفهمه!

حتى أذن الله لأنس وأويس أن يريَا النور، ويشرقا في كوكب قلبي، شعرت - وبشكل تدريجي- بتحول النظري إلى عملي، والمجاز إلى حقيقة، ورجعت النظر كرتين فيما مر على مسمعي واستقر في ذاكرتي من أخبار الحب، وروايات الحنان، وملاحم العاطفة، 

لدرجة أن انكشف لي معنى آخر من معاني البلاغة؛ حيث يمكن للمجاز أن يصبح حقيقة مهما بعُد ذلك في الذهن!

وكان إيماني بتضحية الخليل إبراهيم - عليه السلام- موجودا، وتفهُّمي لاتخاذ الله إياه خليلا حاصلا غير أن حيثيات تلك التضحية وذلك الاتخاذِ انقلبت رأسا على عقب؛ حيث فهمت بعدها كل الفهم وأدركتُ كل الإدراك أن تسليم إسماعيل لأمر الله بمثوله بين يدي أبيه - عليهما السلام - لم يجعل منه بطلا للقصة - رغم عِظَم ما فعل، وهل من الهين أن تجود بروحك لله؟-؛ هذا التسليم لن يصل إلى ما وصل إليه الخليل من امتثاله لأمر الله بذبح ولده الذي طال انتظاره - كحالة من تعلمون! - إلا امروٌ لم يبقِ في قلبِهِ مكانا لغير خالقه أصلا، فتخلل حبه خلالَ قلبه فكان بحق لربه خَلِيلا!

أقول:

إن كان من شيء يمكن أن يغير طريقة التفكير، ويعيد ترتيب الأولويات، ويصل إلى تغيير الذائقة وطريقة النظر إلى الأشياء عموما والشخوص خصوصا، فلن يكون إلا وصول رواد البراءة، وزهور الدنيا، وفلذات الأكباد!

أخيرا:

صغيري لي معك حديث وخطاب لا بد أن يكون في مقالة أخرى لأستطيع أن أقول شيئا مما في الخاطر؛ فلا تتسع هذه المقدمة للمقدار الذي يليق بمكانتك في قلب أبيك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين