ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها - عرفت فالزم

ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها

الشيخ أحمد النعسان

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد فيا عباد الله:

مقدمة الخطبة:

هذه هي الأيام الأخيرة من شهر رمضان المبارك, هذه هي شمس رمضان بدأت بالمغيب, وسيمضي هذا الشهر إما شاهداً لنا وإما شاهداً علينا.
في هذا الشهر العظيم المبارك أَرَيْنا الله عز وجل من أنفسنا استقامة, وتلاوة للقرآن العظيم, ومحافظة على الجمعة والجماعات, أَرَيْناه من أنفسنا الصدقة بعد الزكاة, أَرَيْناه حضور مجالس العلم والذكر, أَرَيْناه كثيراً من القربات والطاعات بعد ترك المحظورات والمنهيات, وإذا كنا كذلك فعلينا أن نستقيم على ذلك.
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا}:
ولكن أيها الإخوة علينا أن لا نكون كالمرأة الحمقاء التي تغزل وبعد غزلها تنقض غزلها, كما قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}.
فإياك أن تُعرض بعد إقبال, وإياك أن تعصي بعد طاعة, وإياك أن تهجر بيوت الله بعد صلتها, وإياك أن تهجر القرآن بعد تلاوة, إياك من نقض العهد بعد أخذ العهد عليك.
المعوَّل عليه الاستقامة على الطاعة والعبادة, العبادة لله عز وجل ليست موسميَّة, العبادة لله عز وجل يجب أن تكون مستمرَّة حتى الموت, قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين}, وقال مخاطباً سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ}.
المعوَّل عليه الاستقامة على الطاعات ما دامت الأرواح في الأجساد, قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}, لا تكن عابداً في موسم من المواسم فقط, هذه المواسم هي محطَّات لِشَحْذِ الهِمم, فالمعوَّل عليه عاقبة الأمور, المعوَّل عليه الخاتمة, قال تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُون * وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}.
فإذا ما رأيت نفحات في شهر رمضان, وتذوَّقت حلاوة الطاعة, وتذوَّقت مرارة المعصية, فإياك أن تنقض العهد وتكون كتلك المرأة الحمقاء التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً, إياك أن تعود إلى ما كنت عليه قبل شهر رمضان.
لا تترك صلاة الجمعة والجماعة بعد شهر رمضان, ولا تترك مجالس الذكر والطاعة بعد شهر رمضان, ولا تترك تلاوة القرآن بعد شهر رمضان, ولا ترجع إلى مخالطة النساء بعد شهر رمضان, ولا ترجع إلى لقمة الحرام بعد شهر رمضان, ولا ترجع إلى قرناء السوء بعد شهر رمضان.
عرفت فالزم:
إذا وجدت الخير في شهر رمضان فالزم المنهج الذي سرتَ عليه في شهر رمضان, واسمع وصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوصاها لسيدنا حارثة رضي الله عنه.
روى الطبراني والبيهقي وغيرهما عَنِ الْحَارِثِ بن مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: (كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ)؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، فَقَالَ: (انْظُرْ مَا تَقُولُ؟ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ)؟ فَقَالَ: قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا، فَقَالَ: (يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ), ثَلاثًا.
يا من ذقت حلاوة الطاعة, حلاوة الإقبال على الله تعالى, دُمْ على ما أنت عليه واحذر من شياطين الإنس والجن بعد شهر رمضان, لأن شياطين الجن مكبَّلة ومقيَّدة, كما قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ, وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ, وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ) رواه البخاري ومسلم, وشياطين الإنس كأنهم أعطوك فرصة في شهر رمضان, فاحذرهم لأنهم يريدون أن يضيِّعوا لك ما حصَّلت من خيرات في شهر رمضان.
{لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم}:
أيها الإخوة: بمجرَّد غروب شمس آخر يوم من رمضان فإن شياطين الجن تُطلَق من قيودها وأغلالها, وترجع إلى ابن آدم لغوايته, وهذا كبيرهم يقسم لربنا عز وجل بعزَّته تبارك وتعالى فيقول: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين}, وبقوله: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين}.
سيأتيك الشيطان من جهاتك الأربع حتى لا تشكر الله عز وجل على ما أسبغ عليك من نعمة الإيمان حيث حبَّبه إلى قلبك, ومن نعمة الإسلام حيث شرح صدرك له, فاحذر شياطين الإنس والجن.
ثمرات الاستقامة:
أيها الإخوة الكرام: الاستقامة لها ثمرات عظيمة, وأعظم ثمراتها هي دوام الاستقامة على شرع الله تعالى, لأن الاستقامة بحدِّ ذاتها هي عين الكرامة من الله تعالى لعباده.
من ثمرات الاستقامة تنزُّل الملائكة على قلبك بالبشائر, قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُون * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيم}.
من البشارات التي تتنزَّل على قلبك من الملائكة الكرام:
1ـ أن لا تخاف من الغيب القادم عليك ما دمتَ في حضرة مولاك, لأن الغيب بيد الله عز وجل يتصرف فيه كيفما شاء تبارك وتعالى.
2ـ أن لا حزن عليك على ما فاتك من أعراض الدنيا, لأنها فانية, ولا حزن عليك من خلال ما فرَّطت في جنب الله تعالى, لأن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً, قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم}, فبمغفرة الذنب ينتفي عنك الحزن إن شاء الله تعالى.
3ـ البشارة بالجنة التي أُعدَّت للمتقين, فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
4ـ الملائكة تتولاك وتتنزَّل عليك لتثبيتك وتطمين قلبك في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أنت بالخيار:
أيها الإخوة الكرام: الناس على قسمين: قسم تتنزَّل عليهم الملائكة, وقسم تتنزَّل عليهم الشياطين, فأهل الاستقامة تتنزَّل عليهم الملائكة, وأهل الكذب والإثم تتنزَّل عليهم الشياطين.
فأنت بالخيار إما أن تتنزَّل عليك الملائكة وذلك من خلال استقامتك على شريعة الله عز وجل, وإما أن تتنزَّل عليك الشياطين بسبب إثمك وكذبك, قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيم * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُون}. هناك من يعانق الشياطين بعد غروب شمس رمضان, هذا العبد صام وما صام, هذا العبد ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش, لأنه يتطلَّع إلى آخر شهر رمضان, فهو على موعد مع شياطين الإنس والجن.
هذا العبد يصوم ويصلي وهو ينظر إلى العبادات أنها شارات وطقوس لا أكثر ولا أقل من ذلك, فإذا انتهى شهر رمضان رجع إلى ما كان عليه, وكأنه ما دخل شهر رمضان.
أما العبد الذي صام إيماناً واحتساباً, وتذوَّق حلاوة العبودية لله تعالى, فإنه لا يمكن له أن يرجع إلى معانقة شياطين الإنس والجن, كيف يرجع إلى الغفلة بعد الحضور, وإلى الإعراض بعد الإقبال, وإلى القطع بعد الصلة؟
أيها الصائم القائم: لقد تطهَّرت في شهرت رمضان, ورمضان ما سُمِّيَ رمضانَ إلا لأنه يرمض الذنوب, أي يحرقها, فلا تُلْقِ بنفسك في قاذورة المخالفات, أما نظرت إلى رجل اغتسل ولبس أجمل الثياب وأنظفها هل يلقي بنفسه في القاذورات ليلطِّخ ثيابه فيها؟ فأنت أيها الصائم القائم أولى بهذا من ذاك, لأن الله ينظر إلى قلبك, والخلق ينظرون إلى ظاهرك, فلا تلطِّخ قلبك بقاذورات المعاصي والمخالفات الشرعية.
وصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أيها الإخوة الكرام: روى الإمام مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, قُلْ لِي فِي الإِسْلَامِ قَوْلاً لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ, قَالَ: (قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ) وفي رواية الترمذي: (ثُمَّ اسْتَقِمْ).
الإيمان بالله عز وجل ينظِّم لك باطنك, واستقامتك على شريعة الله تنظِّم ظاهرك, فإذا نُظِّم ظاهرك وباطنك سعدت في الدنيا وسعدت في الآخرة, وذلك لقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون}, ومن انتفى عنه الخوف والحزن فهو السعيد.
المعول عليه الخاتمة نسأل الله حسنها:
أيها الإخوة: إن المعوَّل عليه هو العاقبة والخاتمة, وكان من دعاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) رواه الترمذي, الأمور بخواتيمها, إذا خُتِم لك على طاعة ربحت الأولى والآخرة, وإذا خُتِم لك على معصية ـ لا قدَّر الله ـ خسرت الأولى والآخرة.
أرأيتم لو أن رجلاً صام من أول النهار, حتى إذا كان قبيل الغروب بقليل أفطر فأكل وشرب, فما هو حظُّه من صيامه؟ لقد أفطر ولم يُسَمَّ صائماً, وكذلك من شرع في الطاعات ثم خُتِم له على السيِّئات ـ لا قدَّر الله ـ فماذا انتفع؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}.
نسأل الله عز وجل الذي شرح صدورنا للإسلام, وحبَّب إلينا الإيمان, أن يُديم علينا هذه النعمة حتى نلقاه وهو راضٍ عنا آمين.
أقول هذا القول وكلٌّ منا يستغفر الله, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين