قال تعالى في سورة البقرة: ﴿وَلَنْ
تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ
إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ
الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾
[البقرة: 120].
وقال في سورة الرعد: ﴿وَكَذَلِكَ
أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا
جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ﴾
[الرعد: 37].
سؤال:
1 – لقد قال تعالى في آية البقرة: ﴿بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾، وقال في
آية الرعد: ﴿بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾.
2 – قال في آية البقرة: ﴿مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾.
وقال في آية الرعد: ﴿مَا لَكَ
مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ﴾.
فما سبب هذا الاختلاف؟
الجواب:
1 – نقول أولاً: أن الفرق بين (الذي) و (ما)
مع أن كليهما اسم موصول أن (الذي) اسم موصول مختص فهو مختص بالمفرد المذكر.
وأن (ما) اسم موصول مشترك يشترك فيه المذكر والمؤنث المفرد
والمثنى والجمع.
وأنه حدد الأهواء في سورة البقرة وعيَّنها بقوله: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120].
ولم يحددها في سورة الرعد بل أطلقها غير أنه قال قبل هذه
الآية: ﴿وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ﴾
[الرعد: 36]، ولم يذكر هذا البعض.
فجاء مع ذكر الأهواء المخصصة بالاسم الموصول المختص وهو
(الذي).
وجاء مع ذكر الأهواء العامَّة بالاسم الموصول المشترك وهو
(ما).
ثم إن العلم المذكور في كل من الآيتين مرتبط بالسياق الذي ورد
فيه، فالمقصود بالعلم في قوله: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [البقرة: 120] في
آية سورة البقرة: العلم بدين الإسلام وهو هدى الله تعالى، وهو ما يقابل ملة اليهود
والنصارى وهو معلوم.
وأما العلم المذكور في آية الرعد فلم يعين ولم يحدد وهو ما
يقابل: ﴿وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ﴾
[الرعد: 36]، فلم يذكر الأحزاب ولم يذكر البعض الذي تنكره.
فجاء في العلم المحدد المعلوم بالاسم الموصول المختص وهو
(الذي)، وجاء في غير المعيَّن بالاسم الموصول المشترك وهو (ما) فناسب كل تعبير
موضعه.
2 – وأما من ناحية الفاصلة في كل من الآيتين
فإنه قال في سورة البقرة: ﴿مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: 120].
وقال في سورة الرعد: ﴿مَا لَكَ
مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ﴾ [الرعد: 37]، والواقي أعم من
النصير، فالواقي هو الحافظ، و(وقى) معناه: (حفظ).
والواقي يكون عاقلاً أو غيره، فقد يكون من الجمادات أو غيرها،
فالسقف واق، والملابس واقية، قال تعالى: ﴿سَرَابِيلَ
تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾ [النحل: 81].
وأما النصير فلا يكون إلا عاقلاً قادراً، فجعل العام وهو
(الواقي) مع العام وهو عموم الأهواء، والاسم الموصول المشترك (ما)، وجعل الخاص مع
الأهواء المحددة، والاسم الموصول المختص وهو (الذي).
3 – إن النصير ينصر صاحبه على الخصم والعدو
ويمكِّنه منه، وأما الواقي: فإنه يحفظه منه وقد لا يتمكّن من نصره.
فوجود النصير أتمُّ في النعمة من وجود الواقي؛ لأنه ينصره،
وإذا نصره فقد وقاه، وإذا عدم النصير فإنه لا يزال مطلوباً لخصمه أو مهضوماً حقه
حتى مع وجود ما يحفظه أو مَن يحفظه، فإن الحافظ قد يخفي مَن يحفظه في مكان لا
يعلمه خصمه أو لا يصل إليه.
فجعل نفي النصير – وهو النعمة الأتم – مع الوزر الأعظم وهو ترك
ملة الإسلام إلى ملة اليهود أو النصارى، وجعل نفي الواقي الذي هو دون ذلك ما هو
أقل وهو إنكار بعض الأحزاب بعض ما أنزل إليه.
وقد تقول: لقد قلتَ في النقطة السابقة إن الواقي أعمَّ من
النصير، وإن مدلول الكلام ههنا أن النصير أعم لأنه ينصر صاحبه، وإذا نصره فقد
وقاه، فهو واق ونصير؟
والحق أنه لا تناقض بين القولين، فإن النصير لابدَّ أن يكون
عاقلاً قادراً والمنصور عليه لابدَّ أن يكون عاقلاً قادراً فهو مختص بذوي العلم
والقدرة ناصراً ومنصوراً ومنصوراً عليه، فلا تقول: هو نصيره من العقرب، أو من الحر
أو من البرد ونحو ذلك.
وأما الواقي: فهو عام فقد يكون عاقلاً أو غيره، وكذلك ما تقيه منه
فقد يكون عاقلاً أو غيره.
وما تقيه قد يكون عاقلاً أو غيره، فإنك قد تقي بضاعة من التلف،
وملابس من الوسخ، وماء من القذر ونحو ذلك، فلا الواقي ولا ما تقيه، ولا ما تقيه من
يُشترط أن يكون عاقلاً بخلاف النصير، فإن النصرة مختصة بالعقلاء وليست كذلك
الوقاية، فاتضح ما قلناه.
4 – ثم إن سياق كل آية يقتضي فاصلتها التي
وردت فيها من جهة أخرى، فقد قال في آية البقرة: ﴿وَلَنْ
تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾
[البقرة: 120]. فإذا اتبع ملتهم كان منهم، وأهل الملة ينصرون أتباعهم على غيرهم من
أصحاب الملل الأخرى، فنفى النصير عنه.
وأما آية الرعد فلم يذكر فيها ذلك وإنما قال: ﴿وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ﴾
[الرعد: 36]. فإذا اتبع أهواءهم في ذلك البعض فإنه قد لا يقتضي النصرة ومحاربة
أعدائه من أجل ذلك البعض الذي قد يكون هيِّناً، ولكن ربما يحفظونه إذا وقع في شدة
أو أَمْر مما هو دون الدخول في مجابهة عدوه فنفى الواقي، فناسب كل تعبير موضعه كما
هو ظاهر.
5 – هذا ومن الطريف أن نذكر أن كلمة (نصير)
وردت في سورة البقرة مرتين: مرة في هذه الآية، ومرة في الآية السابعة بعد المائة،
ولم ترد في سورة الرعد، وأن كلمة (واق) وردت في سورة الرعد مرتين، مرة في هذه
الآية ومرة في الآية الرابعة والثلاثين، ولم ترد في البقرة، فناسب ذلك من جهة
أخرى.
6 – هذا علاوة على تناسب فواصل الآيات في كل
سورة، فآية سورة البقرة تناسب فاصلتها فواصل الآيات التي وردت في سياقها مثل {الْجَحِيم}، و{الْخَاسِرُون}،
و{العَالَمِين}، وفاصلة آية الرعد تناسب فواصل
الآيات التي وردت في سياقها من مثل: {مَئَاب}
و: {الْكِتَابِ} و: {الْحِسَابِ}
فناسب كل تعبير موضعه الذي ورد فيه من كل جهة، والله أعلم.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول