وقفتان مع رحلة الإسراء والمعراج

إن رحلة الإسراء والمعراج التي أكرم الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم لم تكن مجرد رحلة ترفيهية ، أو حكاية تروى ويتمتع بذكر تفصيلاتها وتستعرض فقراتها بغاية التسلية وقتل الوقت، بل هي حدث أعلى من هذا وذاك ، وذلك بالنظر إلى الأسباب والمقدمات التي حدثت بين يديها، والوقوف على الآثار والنتائج اللاحقة؛ ولن تكون كذلك إلا إذا قرئ ذلك الحدث قراءة صحيحة واعية منتجة مفيدة لنا في ديننا ودنيانا .

وبذلك يصدق علينا أننا نعيش مع الحدث حقيقة ودائماً ، ولا نقصره على أيام معدودة من كل عام تأتي وتنقضي ، أو خطب رنانة ، أو احتفالات وندوات هنا وهناك. 

ومن الآثار التي ترمي بها إلينا رحلة الإسراء والمعراج أثران أود الوقوف عليهما على وجه السرعة: 

الأثر الأول : أدب الاستئذان ، ففي حديث الإسراء أن جبريل عليه السلام- ومعه النبي صلى الله عليه وسلم- كان كلما أتى سماء من السموات السبع اسْتَفْتَحَ فَيقال له: مَنْ هَذَا؟ فيقول: جِبْرِيلُ ، فيقال: وَمَنْ مَعَكَ؟ فيقول : مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فيقال له : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ فيقولَ: نَعَمْ، فيقال له: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ ، وهكذا في كل سماء.

من المستأذِن ؟ جبريل... الروح الأمين ... شديد القوى ...، ومن معه ؟ سيد المخلوقات محمد صلى الله عليه وسلم ... 

لم ير جبريل نفسه أنه فوق الاستئذان لأنه جبريل ... أو أن معه واسطة كبيرة لا ترد هو محمد صلى الله عليه وسلم ... لم يقل للملائكة : من أنتم حتى تسألوني هذا السؤال ...أو أنه لا داعي للاستئذان من باب الموانة والصحبة واتفاق الصنعة ...لا ...

الأدب أدب ... والاستئذان نوع من الأدب عظيم ... إسلامي... رباني... نبوي ... علمناه الله تعالى وأمرنا به في كتابه الكريم في قوله : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)، سورة النور .

وفي قوله في نفس السورة : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58).

وفي قوله في سورة الأحزاب : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) .

وحثنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله في أحاديث كثيرة، منها : ما رواه أحمد وأبو داود عَنْ رِبْعِيِّ بنِ عَامِرٍ - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِه، فَقَالَ أَأَلِجُ؟! فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِخَادِمِهِ: «اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الاِسْتِئْذَانَ، فَقُلْ لَهُ: قُلِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ». فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ

والاستئذان أيها الإخوة ليس عند الدخول على بيت، أو اقتحام غرفة نوم على الأب والأم، أو الدَّلف إلى مكتب خاص، بل إنه يتصور في كل شيء... حتى في الطريق وأنت تريد أن تنعطف يميناً أو شمالأً .... أو أن تتجاوز سيارة أخرى ... أو أن تقطع جهة من الشارع إلى أخرى ... فلا بد من إعطاء إشارة بضوء السيارة التي هي بمثابة الاستئذان ... وكذلك في الوقوف في موقف خاص ... وهلم جراً..

كثيرون اليوم لا يعبؤون بهذا الأدب ويتجاوزونه لاعتبارات استقرت في أنفسهم أو جهل غير مقصود منهم بهذا الأدب . 

أما الأثر الثاني فيتجلى في موقف أبي بكر من معجزة الإسراء؛ إذ روى الإمام الحاكم عن السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ ممن كَانوا آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَمِعُوا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لَأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ، قال الحاكم: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ». 

بعض الناس اليوم أيها الإخوة يعانون من ضعف فيهم فيما يتعلق بالإيمان بالغيبيات ، فيروحون يحكمون عقولهم وأفهامهم ومداركهم المحدودة في كل ما يلقى إليهم في الخطب والدروس ، أو يقرؤونه في الكتب الشرعية والمؤلفات الدينية، وهذا ليس بمفيد دائماً، إذ ثمة أشياء لا دور للعقل فيها، ولا يستسيغها الفكر ولا التصور ، ولا يقبلها الحس ولا التجربة، أنرفضها؟ كقضية وجود الله تعالى وقدمه ... ووجود الجنة والنار ... ويوم القيامة وغير ذلك، بالطبع لا ... فالعقل محكوم بالشرع لا حاكماً عليه ... وخادم له لا قاهر إياه... صحيح أن للعقل دوراً في استنباط الأحكام الشرعية وقياس الأشياء ، لكنه دور محدود أحياناً كثيرة.

لقد أعطانا أبو بكر الصديق قاعدة ذهبية في محاكمة ما نسمع وما يلقى إلينا من معارف ومعلومات ... هذه القاعدة مبنية على ركنين أساسيين : 

1- عنصر التوثيق والتأكد من الخبر . 

2- عنصر التصديق والاطمئنان إلى الخبر والإيمان به. 

فإذا توفَّرا لديك لزمك الإيمان، أو على الأقل عدم الإنكار على من يؤمن بذلك بشروطه.

لقد كان من منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه ورعايتهم تعميق الجانب الإيماني فيهم ، وزرع وسقاية نبْت التصديق بالغيبيات، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة : قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَلاَةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: " بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ " فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ، فَقَالَ: " فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا، أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، - وَمَا هُمَا ثَمَّ - وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ، فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ، فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ هَذَا: اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي، فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لاَ رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي " فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ، قَالَ: «فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، - وَمَا هُمَا ثَمَّ -»

فأبو بكر وعمر لم يقولا : إيش هذا ... كيف يعقل أن يتكلم الذئب أو تنطق البقر ... بل سلما وآمنا بالخبر ومضمونه... وصدَّقا بالغيب ...وبهذا أثنى الله على عباده في أوائل سورة البقرة الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3).

ولنكن في ذلك كالسيدة خديجة رضي الله عنها التي سلَّمت وفوضت الأمر إلى إيمانها القوي بالله تعالى ورسوله، فقد روى ابن ماجه عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهَا الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ الْقَاسِمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ خَدِيجَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَرَّتْ لُبَيْنَةُ الْقَاسِمِ، فَلَوْ كَانَ اللَّهُ أَبْقَاهُ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رَضَاعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ تَمَامَ رَضَاعِهِ فِي الْجَنَّةِ» قَالَتْ: لَوْ أَعْلَمُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهَوَّنَ عَلَيَّ أَمْرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ تَعَالَى فَأَسْمَعَكِ صَوْتَهُ» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلْ أُصَدِّقُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ "

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين