وقفات مع تهمة العمالة للعدوّ

د. عبد المجيد البيانوني


يتراشق الناس من مختلف الاتّجاهات الفكريّة والسياسيّة تهمة العمالة للعدوّ ، ويبرّرون بذلك مسالكهم تجاه من يختلفون معهم .. ويصطفّ أناس مع هذا الفريق ، ويصطفّ آخرون مع الفريق الآخر .. ويبرّر لنفسه من يملك قوّة السلطة التنكيل بمخالفيه تحت هذه التهمة ، وبدعوى الوطنيّة والغيرة على الوطن .. وتضيع الحقيقة بين أدعيائها ..
ولقد مضى زمان كانت فيه نماذج العمالة تستخفي وتتوارى ، وتتاجر بشعارات الدين والوطنيّة إلى أبعد حدود المخادعة والمخاتلة ، ووقع ضحيّتها العامّة والخاصّة .. وأصبحنا في زمن لا يقبل فيه من العملاء في أكثر الأحيان أن يتواروا عن الناس بأفعالهم ، أو يتستّروا على سوآتهم .. ومع ذلك فأكثر العمالة حتّى اليوم يخفى على عامّة المثقّفين ، ولا يعلن تحت الشمس ، وفي وضح النهار ـ إلاّ في نادر الأحوال ـ فكيف لنا أن نكون منصفين موضوعيّين ، في التحقّق من التهمة ، أو الحكم على الناس .؟!

وإنّ أوّل خطوة لتحقيق ذلك أن يضبط المصطلح ويحرّر ، فلا يكون حمّال أوجه ، وسلاح مضارّة ومكايدة ، يعبث به من شاء كيف شاء ، كما لا يكون مفهوماً مطّاطيّاً ، يتّسع لأدقّ المعاني ، كما يشمل أوسعها ..
وضبط هذا المصطلح وتحريره يقتضي التمييز بين العمالة المباشرة ، وغير المباشرة ، الصريحة المعلنة ، والضمنيّة الخفيّة ، وملاحظة أنواع العمالة ودرجاتها ، ومظاهرها وأساليبها ..
وكلّ ذلك قد يتّسع به القول ليخرج بنا عن كتابة مقالة موجزة .. ولعل في هذا ما يعذرنا بالإشارة والإجمال عن التوسّع والتفصيل ..
وإنّ الصورة الإجماليّة العامّة في كتاب الله تعالى أنّ من لم يكن من أولياء الرحمن وحزبه ، فهو من أولياء الشيطان وحزبه حالاً أو مآلاً ..
ومع أنّها صورة تحتاج إلى تفصيل وبيان لبعض مكوّناتها وأجزائها ، واستثناء لا تخفى أهمّيّته ، مقتبس أيضاً من كتاب الله ، ولكنّ الوقوف معها ، حتّى يقوم الدليل على الاستثناء لواقع بعينه أولى وأحكم ، وأجدى وأحزم ، من الانسياق وراء الأوهام ، أو حسن الظنّ في غير أهله ومحلّه ..
وقفة مع العنوان : نحن في هذا العنوان أمام ثلاث كلمات : التهمة والعمالة والعدوّ .. فالتهمة في منطق العدل تحتاج إلى بيّنة ودليل ، لتخرج عن حدّ التهمة إلى رحاب الحقيقة ، والعمالة تحتاج إلى بيان حقيقتها وتحديد مفهومها ، والعدوّ لا بدّ من تمييزه غيره ، كيلا نحشر أنفسنا في زاوية ضيّقة في هذا العالم الفسيح ، فنجني على أنفسنا وديننا ..
ومقتضى هذه الكلمات أن نعرف أنفسنا أوّلاً ، لنحدّد موقعنا وعلاقاتنا في خارطة الوجود الإنسانيّ ومتغيّراته ، فنقول :
نحن أمّة رسالة وحضارة ، لها كيانها الجغرافيّ والتاريخيّ ، ولها هوّيّتها وانتماؤها ، وحقوقها ومصالحها ، ولا عجب أن يكون لها في هذا الوجود الإنسانيّ الأبناء الأولياء ، والأصدقاء والأعداء ؛ فالعدوّ كلّ من يعتدي على هوّيّتها وانتمائها ، وحقوقها ومصالحها ، أو ينتقص شيئاً من ذلك ، أو يساعد عدوّها على انتقاص حقوقها ومصالحها ، والصديق كلّ من يسلّم بهوّيّتها وانتمائها ، ويدافع عن حقوقها ومصالحها ..
فالانتماء والهوّيّة ، والوجود الجغرافيّ والتاريخيّ للأمّة ، هي المعيار الموضوعيّ ، والبوصلة والمؤشّر الذي يميّز الوجود الذاتيّ للأمّة ، ويحدّد لها صديقها من عدوّها .. ويعبّر عن الهوّيّة والانتماء الولاء لله ورسوله e ، وللمؤمنين ، ويضادّهما التبعيّة والتغريب ..
وأيّ موقف أو سلوك إنسانيّ إمّا أن يصبّ في مصلحة الانتماء والهوّيّة ، والوجود الجغرافيّ والتاريخيّ للأمّة ، فيقوّي الأمّة ، ويعزّز قدرها بين الأمم ومكانتها ، أو يقوم على انتقاص ذلك ، والعدوان على الأمّة بصورة من الصور ، فيصبّ في مصلحة عدوّها وأهدافه ، ولا ثالث لذلك بحال من الأحوال .. فتلك معايير كاشفة ، أدلّتها وبيّناتها من تاريخنا القديم وواقعنا المعاصر أكثر من أن تحصى أو تحصر ، وأوضح من أن تذكر ..
وتأسيساً على ذلك نقول في بيان حقيقة العمالة وأنواعها ودرجاتها ، ومظاهرها وأشكالها ، وما قد يلتبس بها ويشبهها ، وهو ليس منها :
1 ـ أسوأ مظاهر العمالة وأشنعها ما يكون ظاهراً معلناً ، ولو كان يقوم على دعوى تلبية المصالح الوطنيّة ، أو الدفاع عن الوطن في وجه أعدائه وعملائهم من أبنائه
2 ـ ويأتي في مثل هذه الدرجة من السوء أن يعلن بعض أبناء الوطن هويّة تتناقض مع هوّيّة وطنه ، من هوّيّة بعض أعدائه ، ويدعو إليها ، ويسعى إلى فرضها على أبناء وطنه بما أوتي من قوّة أو نفوذ ووسائل ، ومع ذلك فهو يدّعي الوطنيّة ، والغيرة على الوطن والدفاع عنه .! وأيّ قيمة لدعوى تناقض بدائه الأمور ومسلّماتها .؟!
ولسنا بحاجة إلى التدليل على ذلك والتمثيل وفي واقع الأمّة المحيط بنا شواهد ماثلة صارخة ، لا تخفى على ذي عينين ، ولا تحتمل التأويل والتبرير ..
3 ـ ومن العمالة للأعداء أن يلتقي سلوك بعض أبناء الوطن ومواقفه مع بعض أهداف أعداء الوطن المعلنة أو الخفيّة ، ولو كان هدفاً واحداً ، ويكون هذا السلوك ممّا يتعارض مع حقوق الوطن ومصالحه .
فماذا يمكن أن يفسّر التقاء أهداف العلمانيّين والليبراليّين وأدعياء الوطنيّة مع أهداف المنصّرين والمستشرقين والمستعمرين في تجفيف الينابيع ، ومحاصرة الدعوة والدعاة إلى الإسلام ، وملاحقتهم ، وسجنهم ، وتشريدهم في الأرض ، وتقييد العمل الخيريّ ومحاصرته بكلّ صوره وأشكاله .؟! بم يمكن أن يفسّر ذلك وأمثاله ، إن لم يفسّر بالعمالة .؟! أم أنّنا بلغنا حدّاً من سذاجة العقول وسطحية الفهم أن لا نتّهم الجزّار بالذبح ، وهو يستلّ مديته ، ويجرّ ضحيّته .؟!
ومن حقّنا وحقّ كلّ حرّ عاقل أن يسأل : ما الذي يعصم أدعياء الوطنيّة والقوميّة عن الوقوع في شَرَك التبعيّة والتغريب ، ومطبّات العمالة ومغرياتها .؟! وهم لا يملكون من الحصانة الذاتيّة ، والوازع الدينيّ ، والضمير الأخلاقيّ ما يمنع أو يردع .. وهم يمارسون دور العملاء والوكلاء ، المؤتمنين الأوفياء ..
وإنّ بيان هذه النقطة يتّسع القول فيه اتّساع أهداف أعداء الأمّة وتنوّعها ، وإذا كان لا بدّ لنا من ذكر أهمّ الأهداف الكبيرة لأعداء الأمّة التي لا تخفى على من كان له أدنى بصيرة ، أو يتمتّع بقدر من الإنصاف والموضوعيّة ، فإنّنا نشير إلى بعض هذه الأهداف ، التي لم تعد خبراً مكتوماً ، ولا سرّاً خفيّاً ، ولا يماري بها إلاّ كلّ غافل ساذج ، أو مكابر معاند :
ـ التبعيّة والدوران في فلك سياسات العدوّ ومصالحه ، وتغييب مصالح الأمّة واستقلال قرارها ، ممّا يعني فرض المزيد من التخلّف والتبعيّة عليها .
فممّا لا يخفى على عاقل أنّ الاستعمار لم يغادر بلاد المسلمين ، إلاّ بعد أن رسّخ وجوده الثقافيّ ، الذي يضمن به التبعيّة السياسيّة له ، التي تحقّق له مصالحه على المدى القريب والبعيد ، وسلّم راية الأمّة من بعده لمن صنعهم على عينه ، وغذاهم بثقافته وفكره ، ليسيروا في خطّه المرسوم ، وطريقه المشؤوم ، ويضمنوا له بذلك التبعيّة المستديمة .
ـ منذ الحروب الصليبيّة وأعداء الأمّة يرون في الإسلام العدوّ الأكبر لهم ، والعقبة الكأداء في طريق السيطرة على الشعوب الإسلاميّة ونهب خيراتها ، فلا عجب أن كان من أهمّ أهدافهم : إضعاف علاقة الأمّة بدينها عن طريق الغزو الفكريّ والأخلاقيّ ، لتدمير بنيتها الداخليّة ، ومناعتها الذاتيّة ، المقاومة لمخطّطاته وأهدافه . فهل يقبل عقل أو منطق أن يتّهم بالعمالة للغرب من ينحاز إلى دينه ، ويسعى إلى تحكيم شرع الله في مجتمعات المسلمين ، ورفعة شأنه .؟!
ـ من أهمّ الأهداف الكبيرة لأعداء الأمّة ، وهو أيضاً من وسائلهم المفضّلة : تمزيق كيان الأمّة وشقّ صفّها ، وتفريق كلمتها ، فاللقمة الكبيرة مهما كانت لذيذة يصعب ابتلاعها ، ويشقّ التعامل معها ، وربّما كانت خانقة قاتلة ..
وتلك سياسة قديمة جديدة ، قد تحدّث عنها القرآن الكريم ، وحذّر منها ، وهي لا تزال معتمدة مأمونة ، موثوقة مضمونة ، تؤدّي دورها بفاعليّة كبيرة ، وتؤتي ثمراتها الخبيثة في غفلة من أبناء الأمّة وخاصّتهم ..
وبعد ؛ فإنّ من السذاجة بمكان أن نظنّ أنّ العمالة لا تكون إلاّ بصورتها البدائيّة الفجّة ، بأن يقبض العميل ثمناً مادّيّاً من عدوّ الأمّة ، الذي يتربّص بها الدوائر ، وإنّما العمالة في حقيقتها أوسع من ذلك وأكبر ، وهي تمرّ في كثير من الأحيان بسلسلة معقّدة من المعادلات النفسيّة الخفيّة ، وأساليب المكر والدهاء ، التي تحاك في الخفاء ، وحقيقتها التي لا تقبل الجدل والمماراة : أن يحقّق الإنسان لعدوّه مصالحه وأهدافه ، على حساب مصالح الأمّة وأهدافها ، وأن يلتقي مع أهداف عدوّه في حزء من الطريق : ربعه ، أو نصفه ، أو ثلاثة أرباعه .. فيكون عوناً للعدوّ في تحقيق مصالحه ، بينما هو عثرة في طريق مصالح أمّته العليا ، وعقبة في طريق نهضتها ، وانطلاقتها الحضاريّة المأمولة ..
بقي علينا استكمالاً للرؤية الموضوعيّة أن نشير إلى ثلاث صور من العمالة الظاهرة ، وليست منها في الحقيقة :
الصورة الأولى : وهي أن يلتقي سلوك بعض أبناء الأمّة ـ وهو ممّن لا يشكّ في صدق انتمائه وولائه لأمّته وغيرته عليها ـ أن يلتقي سلوكه عرضاً مع هدف من أهداف أعدائها ، أو يسلك مسلكاً يظنّه من قبيل المداراة المشروعة للأعداء ، وهو من المداهنة المذمومة .
فما يقع به بعض الناس حتّى من الإسلاميّين من خلط وتلبيس بين المداراة لمخالفيهم ، التي لا يمنع منها دين الله تعالى ، بل قد يُرغّب بها ، ويحبّذها في بعض المواقف ، وبين المداهنة ، التي تقوم على الإقرار لهم على أفعالهم ، والرضا بها ، وتمييع المفاهيم ، وتلبيس المبادئ والحقائق وليّها ، وهو ممّا يصادف هوى في قلوب الأعداء ، وقبولاً وترحيباً ، ويدخل في قول الله U : (  وَدُّوا لو تُدهِنُ فَيُدهِنُون )   من سورة القلم .
ولا يخفى على متابع لحالة الحراك الاجتماعيّ للأمّة أنّنا ارتهاناً لواقع الضعف ، نعيش في زمن التنازلات والاسترضاءات ، التي لا تقف عند حدّ ، حتّى من بعض المسلمين المنتسبين للعلم والدعوة ، بدوافع شتّى ، وتبريرات مختلفة ، وعدوّنا لا يرضى منّا بالقليل ، ويقول لنا بلسان حاله : هل من مزيد .؟ هل من مزيد .؟ ويقول لنا كما في المثل : " لو خرجتَ من جلدك لما عرفتُك " ، والله تعالى يقول لنا من قبل ومن بعد : (   وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ(120) )    من سورة البقرة . وفي ذلك بيان قاطع لمن كان له قلب ، وذكرى واعظة ، لمن ألقى السمع وهو شهيد ..
والصورة الثانية : أن يتمكّن بعض أعداء الأمّة  من اختراق بعض أبنائها ، وتجنيدهم من حيث لا يشعرون لتنفيذ أهدافهم ومخطّطاتهم ، وأكثر هؤلاء إنّما أُتُوا من قبل قلّة فقههم بدين الله ، وإعراضهم عن سؤال أهل العلم والدين ، فلعبت بهم الأهواء ، وضلّت بهم الأفهام عن سبيل الحقّ والهدى ..
وهذه الصورة خطيرة إلى أبعد الحدود ، ويتجلّى خطرها في صعوبة إثباتها ، وتعقيد الأساليب المتّخذة فيها والتوائها وأحسب أنّها لم تنل حظّها لدينا من تسليط الضوء والمعالجة الجادّة .
والصورة الثالثة : أن يخدع بعض أبناء المسلمين بشعارات الوطنيّة أو القوميّة ، ويغروا بمعاداة إخوانهم من أبناء أوطانهم ، وممالأة الظالمين على البطش بهم ، والتنكيل بهم ، والعدوان عليهم .. وكثير من هؤلاء عندما تحرّرت عقولهم من التبعيّة العمياء ، وتفتّحت بصائرهم على الحقائق الساطعة ، والأدلّة الدامغة ، آبوا إلى الحقّ ، وعزفوا عن السير في ركاب الباطل .. وتبيّن أنّهم لم تكن خصومتهم نتيجة بيع ضمائر ، ونخاسة فكريّة ، أو خيانة وطنيّة .
وبعد ؛ فإنّ على من يدّعي الوطنيّة ، ويلوّح بها في كلّ مناسبة ، ويبرّر بها مواقفه الإقصائيّة والعدوانيّة على أبناء وطنه ، وشركائه في تاريخه وترابه أن يعلم أنّ الضمانة الكبرى والبيّنة الظاهرة القاطعة ، للتسليم بها ، والاطمئنان إلى صدق مدّعيها ألاّ تخرج تلك الوطنيّة المدّعاة عن شيء من هوّيّة الأمّة وانتمائها , وألاّ تكون أداة هدم في كيان الوطن ، ومعول تخريب لبنيانه ، وتمزيق لنسيجه ، وإفساد لروابط أبنائه .
 نسأل الله جلّ وعلا أن يرينا الحقّ حقّاً ، ويرزقنا اتّباعه ، ويرينا الباطل باطلاً ، ويرزقنا اجتنابه ، وأن يجمع كلمة الأمّة على حبّ الحقّ ونصرته والجهاد في سبيله . والحمد لله ربّ العالمين أوّلاً وآخراً .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين