وقفاتٌ بلاغِيّة، ولمساتٌ بيانيّة في أدعِيةٍ قرآنيّة

في قوله تعالى:

وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (الإسراء:80)

وجهُ مناسبةِ الآيةِ لمَـا سَبقَ:

لَـمّـا أمر الله –تعالى- الرّسُولَ –صلّى الله عليه وسلّمَ- بالشُّكرِ الفعليِّ بقولِه: ( ومِن اللّيل فتهجّدْ به نافلةً لك عسَى أن يبعثكَ ربُّك مَقاماً محمُودًا) (الإسراء79)؛ عطَف عليه الأمرَ بالشُّكرِ اللِّسانيِّ بأنْ يبتهِلَ إلى الله -تعالى- بسُؤالِ التّوفيقِ في الخُروجِ من مَكانٍ، والدُّخُولِ إلى مكانٍ؛ كيلا يضُرَّه أن يَستفِزَّه أعداؤُه من الأرضِ؛ ليُخرجُوه منها.

وللآيةِ مُناسبةٌ أخرى لَطِيفةٌ بِقولِه -تعالى-: (عسَى أن يبعَثكَ ربُّك مَقاماً مَحمُودَا) [الإسراء:79]؛ لأنّه لَـمَّـا وعَدَه بأن يُّقِيمَه مقاماً محموداً ناسَبَ أن يسألَ أن يكُون ذلكَ حالَه في كلِّ مقامٍ يقُومُهُ.([1])

ويقُولُ العلّامة أبو حيّان في تفسيره "البحر المحيط": ولـمّـا أمره –تعالى- بإقامةِ الصَّلاةِ، والتّهجُّدِ، ووَعدَه بِبعثِه مقاماً محمُوداً، -وذلك في الآخرة- أمره بأن يدعُوه بما يَشمَلُ أمُورَه الدُّنيويّة والأخرَويّةَ.([2])

النكتةُ الأُولى في صِيغةِ الخِطابِ بـِ"قُل":

هذا الخِـطابُ تلقينٌ منه -سبحانه- للنّبيِّ –صَلّى الله عليه وسلّم_، وفيهِ إشارةٌ إلهيّةٌ إلى أنَّ الله –تعالى- مُـخرِجهُ أي: النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم- من مكةَ إلى المدِينةِ مُهاجِرًا؛ فكأنَّ الله -تعالى- هيّأه لِـمَـا سيستقبِلُه من مصائبَ في الهجرةِ، وهذا الذي يُسمَّى بالاستِعدادِ النَّفسيّ، والكفاءةَ الذّاتيّة.[3] ومثلُه: الخِطابُ الثّاني في الآيةِ التّالية؛ ففِيه إشارةٌ إلى استبشارٍ بقُرب الظّفر والنّصر.[4]

النكتة الثّانيةُ في العُدُولِ عن المجرَّدِ إلى المزِيدِ أو في العُدُولِ عن اللّازِمِ إلى المتعدِّي:

مقتَضى النّظمِ أن يقالَ: مَدخلَ صِدقٍ، ومَخرجَ صِدقٍ (بِفتحِ الميمِ في كِلتا الصِّيغتينِ من المجرّدِ)، ولكن عُدِلَ عنه، حيثُ اختِيرَ هنا الاِسمُ المشتقُّ من الفِعلِ المتعدّي؛ للإشارَةِ إلى أنّ المطلُوبَ دُخولٌ وخُروجٌ ميسَّرانِ من قِبلِ الله –تعالى- وواقِعانِ بإذنِه، وهذا دُعاءٌ بكُلِّ دُخولٍ وخُروجٍ مُبارَكَين؛ لتتمّ المناسبةُ بين المسؤولِ وبين الموعُودِ به، وهو المقامُ المحمُود.[5]

النكتة الثّالثةُ في حَذفِ المفعُولِ به مِن فِعْلَـي: أدخِلْنِي وأخرِجْني:

حُذِفَ مفعُولُ كلٍّ من فِعلِ: أدخلني، وأخرِجني؛ لإفادةِ العُمُومِ؛ فإنّ المفعُولَ به متى حُذِفَ أفادَ العُمُومَ، كقولِه -تعالى- (والله يدعُو إلى دار السّلام)؛ فخُلاصةُ الكَلامِ وزُبدةُ القَولِ أنَّ هذا السُّؤالَ يعُمُّ كلَّ مكانٍ يدخُل إليه، ومكانٍ يخرجُ منه، وقد عَمّتْ هذه الدّعوةُ جميعَ المداخلِ إلى ما يُقدَّر له الدُّخولُ إليه، وجميعَ المخارجِ التي يخرج منها حقيقةً أو مجازاً.

وذكَرَ الزَّمخشَريُّ أنَ هَذا عامٌّ في كل ما يدخل فيه ويُلابسه من أمرٍ ومكانٍ، واستحسنه العلامةُ الطّيبيُّ بأنّ هذا أقربُ لسِباقِ الكلام وسِياقِه. ويؤيِّدُ معنى العُمُوم قولُه تعالى: «وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً».[6]

وقد أطنبَ القولَ فيها الإمامُ الرّازيُّ، وجارُ الله الزَّمخشريُّ -رحمهما الله-؛ فذَكَر لهما وجوهاً مُتنوّعةً، وصُوراً مختَلِفةً.[7] وقد رجَّحَ العلّامة أبو حيّان: أنّ الأحسنَ في هذهِ الأقوالِ أن تكُونَ على سبيلِ التّمثِيلِ لا التّعيين، ويكُون اللَّفظُ -كما ذكرناه نقلاً عن ابنِ عاشُور- يتناولُ جميعَ الموارِدِ والمصَادِر. وفي الكشفِ: أنّه الوجهُ الموافِقُ لظاهرِ اللّفظِ، والمطابقُ لمقتضَى النّظمِ؛ فسابِقُه ولاحِقُه لا يختصّانِ بمكانٍ دُونَ آخرَ.[8]

النُّكتةُ الرّابعةُ في زِيادةِ كلمةِ "نصِيراً":

فإن قيل: "السلطان": اسمٌ مصدرٌ يُطلقُ على السّلطةِ، وعلى الحُجّة، وعلى الملكِ، والمرادُ به في هذا المقامِ كلمةٌ جامعةٌ على طريقةِ استعمالِ المشترَكِ في معانِيه المختلِفةِ، -أو هو من عُمُوم المشترك-، تشملُ أن يجعلَ له الله تأييداً، وحُجّةً، وغلبةً، وملكاً عظِيماً، وقد آتاه الله ذلك كُلَّه، فنصَرَه على أعدائِه...؛ فما وجهُ زِيادةِ كَلِمةِ "النَّصِيرِ" مع أنَّ الأولى تؤدّي نفسَ المعنى الذي تؤدِّيه الأُخرى؟!

والجوابُ عنه: أنَّ هذا الوصفَ تقييدٌ للسُّلطانِ؛ لإزاحِ الإبهامِ، ورفع الأوهامِ بأن لا تذهبَ الظُّنونُ بأيِّ إنسانٍ أنه -عليه السّلام- لم يسألْ سلطاناً للاستعلاءِ على الناس، وإنما سَأل سُلطاناً لنصرِه فيما يطلبُ النّصرةَ، وهو التّبليغُ، وبثُّ الإسلامِ في الناس؛ إذ قد كان العملُ القائمُ به النّبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- هو الدّعوَة إلى الإسلامِ؛ فكان نصرُه تأييداً له فيما هو قائمٌ به، لَيسَ غيرُ.[9] وهذا هو الذي أشار إليه الإمامُ الرّازيُّ -رحمه الله- بقولِه: أي: حُجةً بينةً ظاهِرةً تنصُرني بها على جَميعِ من خَالفنِي، وناوَأَني.

النّكتةُ الخامسةُ في العُدُولِ عن اسمِ الفاعلِ إلى الصّفةِ المشبّهةِ:

فإن قيل: لِـمَ عُدِلَ عن اسم الفاعل؟!

قلنا: إرادةً للمبالغةِ في النّاصر، ومعناه: سلطاناً يَنصُرُني، وإليه يُشيرُ قولُ العلاّمة السّمين الحلبي -رحمه الله-: يجوز أن يكون "نصِيراً" مُحَوَّلاً مِنْ فاعِل للمبالغةِ، وأن يكونَ بمعنَى مفعولٍ.[10]

النّكتةُ السّادسةُ في إضافةِ المدخل والمخرجِ إلى الصِّدقِ:

فإن قِيل: كيفَ أضِيفَ الصِّدقُ إلى المدخل مع أنّه من أوصافِ ذوِي العِلمِ؟!

قُلنا: نسبةُ الإدخالِ والإخراجِ إلى الصِّدقِ نِسبةٌ مجازيّةٌ؛ إذِ المدخلُ والمخرجُ لا يُوصَفَانِ بالصِّدقِ ولا بِضِدِّه، ووجهُها: أنّ الصِّدق هنا لفظٌ يقتضي رفع جمِيعِ المذام واستيعاب المدح كما تقول: رجلُ صدقٍ؛ إذ هو مقابلُ رجلُ سوءٍ، وهاكَ نصَّ العلّامة الطّيبيّ ليتّضِحَ القولُ كلّ وضُوحٍ، يقُول: مَعنَى الإضافةِ في (مُدْخَلَ صِدْقٍ) و(مُخْرَجَ صِدْقٍ) نحوُ الإضافة في "رجُلُ صدقٍ" -أي: جامعٌ للمحاسنِ-[11] و"رجلُ سَوءٍ"، والصِّدقُ إنما هُو من أوصَافِ ذَوِي العِلم، فإذا وُصِف غيرُه كان دَالاً على أن ذلك الشّيءَ مرضِيٌّ في بابه. قال المصنّف -يعني به الزَّمخشَريَّ- في قوله تعالى: (كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [الشعراء:7]: "وُصِف الزّوجُ من النّباتِ بالكرَمِ، والكَرمُ صفةٌ لِكلِّ ما يُرضى، ويحمدُ في بابه". وإليه ذهب العلّامة ابنُ عاشُور: أنّ إضافةَ أيّ كلمةٍ وأيِّ شيءٍ إلى (صدقٍ) تُفيد معنى مصادفتِه للمأمُولِ منه المرضيِّ وأنه لا يخيبُ ظنُّ آملٍ كقولِه: (ولقد بوّأنا بني إسرائيلَ مبوّأ صِدقٍ) [يونس:90]، وقوله: (في مقعدِ صدقٍ عند مليكٍ مقتدر) [القمر:55].

النُّكتةُ السّابعةُ في إيرادِ وصفِ الصّدقِ دون غيره من أوصافٍ أخر:

قبلَ أن نتعرَّضَ لبيانِ ما في هذا الوصفِ من سرٍّ بيانيٍّ أقولُ: أصلُ معنى الصّدقِ وحقيقتُه: هو الحقُّ الثابتُ المتصلُ بالله، الموصلُ إلى الله، وهو ما كَان بِه ولَه، من الأقوالِ والأعمالِ، وجزاءُ ذلك في الدُّنيا والآخِرَة، وأمّا القولُ في أنّه وُصفَ "المدخل والمخرج" بالصّدقِ دون ما عداه من أوصافٍ أخر؛ فهو كما قاله الإمام ابنُ قيّمِ الجوزِيّةِ، وإليك نصّه: ووَصفُ ذلك –كلّه- بالصّدقِ مستلزمٌ لثُـبُوته واستِقرارِه، وأنه حقٌّ مستلزمٌ لدوامِه، ونفعِه، وكمالِ عائِدته؛ فإنه متّصلٌ بالحقِّ سُبحانَه، كائنٌ به وله؛ فهو صدقٌ غير كذبٍ، وحقٌّ غيرُ باطلٍ، ودائمٌ غيرُ زائلٍ، ونافعٌ غير ضارٍّ. وما للباطلِ ومتعلّقاتِه إليهِ سبيلٌ ولا مدخلٌ.[12]

هذا، وقد قال العلاّمة السّمعانيُّ: "وَإِنَّمَا مُدِحَ الإدخالُ والإخراجُ لِـمَـا يؤُولُ إِلَيْهِ الْخُرُوج وَالدُّخُول من النَّصْر والعزِّ ودولةِ الدِّينِ".[13]

وذكر العلّامة السّمين الحلبي -رحمه الله- أنّه يُعبّر عن كُلِّ فعلٍ فاضِلٍ ظَاهِرًا وباطِنًا بالصِّدقِ؛ فيُضافُ إليه ذلك الفِعلُ الذي يُوصَفُ به كقولِه تعالى: (في مقعدِ صِدقٍ) [القمر:55]. وقوله تعالى: (أنّ لهم قدَمَ صِدقٍ) [يونس:2]. وقولِه تعالى: (رب أدخلني مُدخَل صِدقٍ وأخرِجْني مخرجَ صِدقٍ) [الإسراء:80]. وقولِه: (واجعل لي لسانَ صِدقٍ) [الشُّعراء:84].[14] ففي الأوّلِ مدحٌ لمقعدٍ، وفي الثّاني مدحٌ للقدَمِ، وفي الثّالث مدحٌ للإدخالِ والإخراجِ، وفي الرّابع مدحٌ لِلِسانِ.[15]

والحاصل: كأنّه سألَ الله –تعالى- إدخالاً حَسَناً وإخرَاجاً حسَناً لا يُـرَى فيهما ما يُكرهُ.[16]

النّكتةُ الثّامنةُ في إضافةِ الموصُوفِ إلى الصِّفة:

وأمّا القولُ في إضافةِ "مُدْخَلُ إلى صِدْقٍ، وكذا ما بعده فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة. وأصله: مدخلٌ صدقٌ، أي صادقٌ، وهو وصف بالمصدرِ للمبالغةِ؛ لأنّه يوصفُ به مبالغةً على رأيِ الكُوفيّين، وأمّا على رأيِ البصريّين فهو من بابِ: إضافةِ التّبيينِ.[17]

النُّكتةُ التّاسِعةُ في تَقدِيمِ المدخلِ على المخرَج:

وإنّما قُدِّمَ المدخل على المخرج؛ لكونِه أهمَّ، وإن كان هو في الوُقُوعِ مؤخّراً؛ إذِ المرادُ بمدخلِ صدقٍ الدُّخُولُ في المدينةِ، ومعلومٌ أنّ الهجرة إلى المدِينةِ كانت بعد الـخُروجِ من مكّةَ، وأمّا تغييرُ ترتيبِ الوجودِ فلكون الإدخالِ هو المقصد.[18] ومن هنا يمكِننا أن نتفهّم مع العلاّمة البقاعيّ -رحمه الله- ولما كان هذا المقام صالحاً للشفاعة ولكل مقام يقومه، وكان كلُّ مقامٍ يحتاجُ إلى التوفيقِ في مباشرته والانفِصالِ عنه تلاه ما يحثُّ على دوام المراقبةِ واستشعارِ الافتقار بقولِه مقدّماً "المدخلَ" لأنه أهمُّ.[19] وعبّر عنه العلّامة ابنُ عطِيّة بقولِه ما معناه: قُدِّم المدخلُ، وأخِّر المخرجُ؛ للإشارةِ إلى أنّ مكانَ الدُّخولِ والقرارِ هو الأهمّ.[20]

[1] راجع: التحرير والتنوير لابن عاشُور، ومحاسن التّأويل للقاسمي.

[2] راجع: البحر المحيط لأبي حيّان.

[3] راجع: التحرير والتنوير لابن عاشُور.

[4] راجع: تفسِيرَ محاسنِ التّأويل، للعلّامة جمال الدين القاسمي.

[5] راجع: التحرير والتنوير لابن عاشُور.

[6] تفسير معاني البيان لابن عادل الدّمشقي.

[7] راجع: مفاتيح الغيب للرازي، والتحرير والتنوير لابن عاشُور.

[8] راجع: تفسيرَ روحِ المعاني للآلُوسي.

[9] راجع: التحرير والتنوير لابن عاشُور.

[10] راجع: رُوح المعاني للآلُوسي.

[11] راجع: تفسِير ابن عطيّة.

[12] راجع: التّفسِيبر القيّم للإمام ابن القيّم.

[13] راجع: تفسير السّمعاني، وتفسيرَ البغوي.

[14] راجع: عمدة الحفّاظ في تفسِيرِ أشرفِ الألفاظ للعلّامة السّمين الحلبي.

[15] راجع: تفسِيرَ السّمعاني.

[16] راجع: مفاتيح الغيب للرّازي، والدر المصُون للسّمين الحلبي.

[17] راجع الدر المصُون، والتحرير والتّنوير.

[18] راجع: تفسِيرَ أبي السّعُود.

[19] راجع: نظم الدرر في تناسُبِ الآيِ والسُّور للعلّأمة البفاعيّ.

[20] راجع: تفسِيرَ ابن عطِيّة.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين