وقائع وأخبار فهل من مدكر ؟ (9)

ما أكثر الأحداث والوقائع التي يعرفها كلّ إنسان منّا من موت الفجاءة.. الذي دهم بعض الناس على اختلاف أعمارهم وأحوالهم، فكان موتهم عبرة لمن حولهم، ولكنّها عبرة موقوتة قاصرة، ثمّ عاد الناس إلى ما كانوا عليه من لهو وغفلة..

وهذه الوقائع التي أقدّمها لك أخي القارئ ليست من بنات أفكاري، ولا من نسج الخيال، وإنّما هي ممّا أعرف أشخاصه حقّ المعرفة، أو ممّا سمعته من ثقاة الناس، وفيه العبرة والموعظة.. والسعيد من وعظ بغيره..

إنّها قصص ومشاهد واقعيّة، من حياتنا المعاصرة، أرويها لك، ولعلّك قد سمعت ببعضها، ولعلّك تعرف أكثر منها.. ولا نقصد بها شماتة بأحد أو تشهيراً، وإنّما نريد بها العظة للأحياء والاعتبار..

39 * لمسة كهرباء:

كان يحسّ بدنوّ أجله، كما حدّث بذلك عدداً من أصحابه، فقال له بعضهم: إن كنت صادقاً فيما تقول، فلماذا لا تتوب، وتلتزم بطاعة الله.؟! فحرّكت هذه الكلمة في نفسه داعية التوبة، فعزم عليها بصدق، وعندما انتهى من عمله كعادته، لم يغيّر ثيابه ليذهب إلى سهرة لهوه المعتادة.. وإنّما اغتسل وتوجّه إلى المسجد ليؤدّي صلاة العشاء.. وفي المسجد اصطاده دعاة الخير، فابتدأ رحلة الهداية، وحياة التوبة إلى الله والإنابة..

وافتقده رفاق السوء، لا لشيء إلاّ أنّه كان ينفق عليهم بغير حساب، وحاول بعضهم إغراءه ليعود إليهم، فكان نور الله في قلبه أعظم من دغدغات الشهوات.. وتحوّل ما كان ينفق من أمواله على رفاق السوء إلى زوجته وأولاده، وظهرت عليهم آثار النعمة، وعاشوا في بحبوحة العيش ورغده.. ولكنّ الإنسان كفّار ظلومٌ، فلم تقدّر زوجته هذه النعمة، فكانت تتذمّر منه ومن تديّنه صباح مساء.. فكان يقول لها: أيسرّك أن أعود إلى رفاق السوء، الذين كنت لهم كالبقرة الحلوب، وكنتم محرومين منّي من كلّ خير.؟ فتسكت ولا تجيبه بشيء.. ولكنّها لا تكفّ عن أذيّتها.. وآذته زوجتُه مرّة بلسانها إيذاءً شديداً، فقال لها: ستندمين حين لا ينفعك الندم، وستحرمين هذه النعمة.. وما يوم ندمك ببعيد.!

وحجّ فازداد خيراً على خير.. وفي شهر رمضان كان مقبلاً على الله أكثر من أيّ وقت مضى.. إنّه في شهر التوبة والإنابة.. شهر الخير والبرّ، والرحمة والإحسان.. ودخل محلّه التجاريَّ فرأى الثلاّجة يسحّ الماء من أسفلها، فأراد أن يمسحَه، فكان فيها ماسّ كَهربائيّ، فبلمسة واحدة خفيفة كان الأجل بانتظاره..

والشيء بالشيء يذكر: كان أحد أولادي طفلاً لا يتجاوز السنتين إلاّ قليلاً، وضع مسماراً من الحديد في مأخذ الكهرباء، فضربته الكهرباء، وخرج من المأخذ نار، فاسودّ الجدار، وأدركته وهو يبكي، والمسمار في المأخذ، ولم يصبه أذىً بحمد الله..

وسألت أحد العاملين المختَصّين في الكهرباء عن أعجب ما وقع معه، فقال: " كنت أعمل في إصلاح سلك كبير من الكهرباء بتيّار ثلاثمئة وستّين فولتاً، وطلبت من مساعدي أن يقطع عنه التيّار، فأخطأ في قطعه فأمسكت السلك، وأنا مطمئنّ إلى أنّه مقطوع في ظنّي.. فمسّتني الكهرباء مسّاً غليظاً حملني عن السلّم، وألقاني بقوّة خلف السور الذي كنت أقف دونه، وأغمي عَليَّ أكثر من ساعة.. قال: وأعرف من مسّه تيّار أخفّ من هذا فقضى عليه.. ونعم الحارس الأجل.. ".

40 * غدرة بغدرة:

استمرأ في سبيل المال كلّ قبيح، وأقبح ممّا يفعل أنّه كانَ يتباهى بأفعاله الخسيسة، ولا يستحيي منها.. وعندما يبحث المجرمون الكبار عمّن يكون أداة رخيصة بيدهم يجدون من أمثَالِ هذا اللاهث وراءهم من يبيع إنسانيّته وشرفه بثمنٍ بخسٍ، ولا يفكّر في شيءٍ سوى إشباع نهمته للمَالِ، وليكن من بعده الطوفان..

وتمّ الاتّفاق معه على صفقة قتلٍ غَادر بعِشرين ألف دولار.. واستدرج ضحيّته إلى مكان الجريمة، وهو لا يعرف اسمه ولا قضيّته، ولا يفكّر إلاّ بالمبلغ الكبير، الذي ينتظره.. وغدر بضَحيّته بدمٍ بارد.. وانتشر الخبرُ بعد يومين أنّ فلاناً... هرب من.. وانتحر.. وكان التحقيق الظاهر، وطويت القضيّة إلى يوم القيامة..

وعشيّة يوم لا صبيحة بعده، تسلّم مكافأته، وهو يضحك.. بل يرقص طرباً.. والقدر يضحك كذلك.. وفي الطريق إلى بيته حاول اختصار الطريق، فدخل شارعاً ترابيّاً، ولكنّه مع طيش فكره وراء فرحته تاه في بعض منحنياته، فشطّ بعيداً عن مدخل بيته، ولم يَنتبِه إلاّ على إطلاق النار على سيّارته، فتوقّف قليلاً، ثمّ قرّر أن يترجّل، ويرفع يَديْهِ.. لاشكّ أنّه في منطقةٍ عسكريّة، وقد اشتبهت به، فتقدّم منه رجل ملثّم، وبيده رشّاش، فلم ينتظر منه كلمة واحدة.. وأفرغ رصاصات في جسده، وهو يقول له: خذها يا قاتل أبي.! فوقع جُثّةً هامدة..

وبعد أيّام.. ألقي القبض على القاتل، واعترف بجريمته بكلّ جراءة.. إنّه يرصد قاتل أبيه منذ شهر في هذا الطريق.. لقد ظنّه قاتل أبيه..

41 * الموت أقوى من الفرح:

كانت فرحته بعرس أخيه لا توصَف، لقد استنفر طاقته منذ أيّام من عمل إلى آخر، حتّى عجبت والدته لحاله، وقد اعتادت ألاّ يقوم بخدمة للبيت إلاّ بالمطالبة الملحّة مرّة بعد مرّة..

ويوم العرس كان يذهب ويجيء بدرّاجته، في خدمات شتّى، لا يكلُّ ولا يملّ.. واجتمع الناس، وكان الفرح يتلألأ في وجوه الحاضرين، والبسمة لا تبرح الشفاه.. وسأل الوالد عن أحمد، فقيل له: لقد أرسلناه في حاجة، وسيعود قريباً، فشعر بالضيق يملأ صدره..

ومضى الناس في العرس بأهازيجه وسروره.. وفي الطريق إلى صالة الفرح كانت سيّارة الأخت الكبرى، وقد تأخّرت كثيراً عن الناس تمشي مسرعة، وكلّ من فيها يشعر بملامة الناس للتأخّر، ولحظت الأخت من بَعيد أخاها مسرعاً على درّاجته، فقالت: هذا أخي أحمد على درّاجته، لقد تعب كثيراً هذه الأيّام.. وقريباً نفرح به إن شاء الله.. ولم تكد تكمل كلامها حتّى خرجت سيّارة من شارعٍ فرعيّ، فضربت درّاجته فألقت به مسافة عشرة أمتار أو يزيد.. ووقفت سيّارة الأخت، لترى أخاها جثّة هامدة، والدماء تملأ وجهه، وتنزف من أذنيه وأنفه، وتسيل من رأسه.. فأخذت تولول وتصيح.. وتجمّع الناس حول الفتى المضرّج بدمائه، ولم يكن أمام الأخت أن تتابع طريقها لتبلّغ أهلها المجتمعين في عرس أخيها الآخر..

وعندما اقتربت من الصالة، وسمعت صوت أهازيج النساء، رفعت صوتها بولولة الحزن والموت.. فاختلطت الولولة بالأهازيج.. وشكّ الناس أوّل الأمر: أهي ولولة أم أهازيج.؟! أم هي امرأة مغفّلة، لا تعرف كيف تهزج في الفرح.؟! وعندما استطلعوا الخبر توقّف الفرح.. وتحوّل العرس إلى مأتم.. { وَأنّهُ هُوَ أضحَكَ وَأبكَى (43) } النجم. وسبحان من قهر عباده بالموت.! ولله درّ شاعر المعرّة إذ يقول:

وشبيه صوت النعيّ إذا قيـ    ـس بصوت البشير في كلّ نادِ

42 * مستدرج إلى حتفه:

غرّ جاهل، أقرب إلى السذاجة وبراءة الفطرة، لا يعرف من شئون الدنيا شيئاً، ألقي به بين أنياب الوحوش الضارية، فماذا يرجى له.؟! إنّها باختصار قصّة نِهاية رامز، ذلك الشابّ الناشئ في أعطاف النعمة، وترف الغنى والثراء، زُيّن لوالديه أنّ السبيل إلى الجاه والمجد هو في إرسال ولَدِهم إلى بلاد الغرب، لإكمال الدراسة، وهو لم يزل غضّ الإهاب، طريّ العود.. وهناك تلقّفه رفاق السوء، وأحاطوا به من كلّ جانب، وبخاصّة أنّه من طبقةٍ غنيّةٍ معروفة في المجتمع، فاستدرجوه إلى أبواب الشرّ والفساد، وعرّفوه على ما لا خير له فيه.. فأخذ ينفق عليهم بغير حساب، وتعمّق في إقامة علاقات مع بنات الهوى، حتّى أصبح حديث الناس، بين مشفق عليه وغابط.. وانصرف عن دراسته إلى لهوه ومجونه، إذ لا رقيب عليه ولا حسيب..

وفجأة جاء الخبر إلى والديه أنّه وجد ميتاً في الشقّة التي يسكنها.. فجنّ جنون والديه، وطار الأب إلى تلك الديار، وطالب بفتح تحقيق جنائيّ، واستعمل ما يستطيع من مالٍ وجاه، وتأكّد بعد حين أنّ الشابّ مات مسموماً.! وكان الحزن على موته أخفّ من الندامة على إرساله.. فهل نفع الحزن أو الندامة.؟!

43 * شرب كأس الحمام قبل أن يشرب كأسه:

زارني في المكتب زيارة طويلة، وأعجبت بما هو عليه من استقامة في مواقفه، مهما فاته من مصالح، ممّا أصبح عملةً نادرةً في هذا العصر.. وكان ممّا قال لي: " نحن نشقى ونتعب من أجل أولادنا.. ولكنّني لا أرضى أن أسلك أيّ سبيل ملتوٍ أو مخالف للنظام، لتحقيق أيّ مصلحة لهم.. " وبعد يومين دخل عليّ المرشد الطلاّبيّ، وقال لي: أعظم الله أجركم بوالد سامر ! قلت: وأيّ سامر تعني.؟ قال: والد سامر وعامر.! قلت: " أنت غلطان.! " قال: ولماذا.؟ قلت: لأنّه أوّل أمس كان عندي هنا.! قال: والبارحة توفّي إلى رحمة الله.! قلت: وكيف.؟ قال: كان من عادته أن يشرب الشاي بعد العصر، فدخلت عليه زوجته بالشاي، وهو جالس متّكئ في مجلسه، وصبّت له كأس الشاي وخرجت.. وبعد نصف ساعة دخلت عليه فوجدته رافع الرأس على مسند مجلسه، وهو شاخص البصر إلى السماء.. وكأس الشاي كما هي، لم يشرب منها قطرة.!

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين