وقائع وأخبار فهل من مدكر ؟ (8)

ما أكثر الأحداث والوقائع التي يعرفها كلّ إنسان منّا من موت الفجاءة.. الذي دهم بعض الناس على اختلاف أعمارهم وأحوالهم، فكان موتهم عبرة لمن حولهم، ولكنّها عبرة موقوتة قاصرة، ثمّ عاد الناس إلى ما كانوا عليه من لهو وغفلة..

وهذه الوقائع التي أقدّمها لك أخي القارئ ليست من بنات أفكاري، ولا من نسج الخيال، وإنّما هي ممّا أعرف أشخاصه حقّ المعرفة، أو ممّا سمعته من ثقاة الناس، وفيه العبرة والموعظة.. والسعيد من وعظ بغيره..

إنّها قصص ومشاهد واقعيّة، من حياتنا المعاصرة، أرويها لك، ولعلّك قد سمعت ببعضها، ولعلّك تعرف أكثر منها.. ولا نقصد بها شماتة بأحد أو تشهيراً، وإنّما نريد بها العظة للأحياء والاعتبار..

34 * في لحْظةٍ واحدة يُطوى كلّ شيء:

في لحْظةٍ واحدة تعلّق المشْكلات المستعصيات العالقة، ويقف الجدل والحوار، وتنطفئ الحماسة اللاهبة، وتهدأ النار الثائرة، وتؤجّل الأمور إلى اليوم الموعود..

شابّ وديع لطيف، تقيّ رزين، حافظ للقرآن، في العقد الثالث من العمر، لم يمض على زواجه ثلاث سنوات، كان يستعدّ لاستقبال المولود الثاني بآمال عريضة، ونفسٍ بهيجة، وما يمنعه من ذلك.؟! وطفله الأوّل عبد الرحمن، قد ملأ أركان البيت بهجة وأنساً، وغمر أقطار النفس أملاً وسعادة، لا يعدلها ملء الأرض ذهباً أو فضةً..

أصرّ على زوجته أنْ يشارك في لقاء الأقارب والأرحام في استراحةٍ خارج مدينة جُدّة.. فصلة الرحم ـ كما قال لها ـ أولى من النزهة وحدنا.. وحضر الغداء فأكل وزاد، كما أكل الآخرون وزادوا، وشارك في كلّ حديث ودعابة.. وهو لا يدري ماذا ينتظره.؟ وصلّى العصر مع الجماعة، واستمع ما ألقي على سمعه وسمع الآخرين من موعظة، وكان خلالها ـ يشهد الله ـ مُصغِيَ السمع حاضر القلب، ثمّ شارك بالرياضة بكرة الطائرة، ثمّ صلّى المغرب مع الجماعة، وتوجّه مع الشباب إلى المسبح.. وقال لمن حوله: إنّه لا يعرف السباحة.. فحاول بعض الشباب أن يهوّن عليه الأمر ويعلّمه.! ولكنّه بقي معتصماً بجبنه الفطريّ، كشأنِ أمثاله في هذا الأمر.. واستغرق الشباب في سباحتهم ولعبهم.. وانتبه بعضهم بعد ربع ساعة فقط لشخص في القاع.. أسفل الماء، فظنّه لأوّل وهلة أنّه سبّاح ماهر.. يغوص ويعوم.. ثمّ ظهرت جليّة الأمر.. لقد قضى صاحبنا غرقاً، في بركة ماء، لا تبلغ عشراً بعشر.. وكيف.؟! إنّه الموت يأتي بغتة، ويكون بأهون سبب..

قَالَ أحد الحاضرين: واحسرتاه على أنفسنا ! كيف اختطفه الموت من بيننا، ونحن نلهو ونلعب ؟! ألا يمكن أن يكون الميت أحدنا ؟ أهكذا يمكن أن يأتينا الموت.؟! نعمْ، هكذا يمكن أن يأتيَ، وربما يأتينا كما جاء صاحبنا، فلا حصانة لأحد من الخلق عنه.. فأين العقلاء المتّعظون.؟ الذين يعتبرون، قبل أن يُعتَبرَ بِهم، ويتّعظونَ قبل أن يكونوا عظة لغيرهم.! 

35 * فضيحة غير محسوبة:

 طلب من زوجتِه المسكينة أن تجهّز له محفظة السفر، لأنّه يريد الذهاب لأداء العمرة.. تعجّبت زوجته أوّل الأمر لأنّها تعلم أنّ زوجها متساهل في صلاته، بعيد عن التمسّك بدينه، فمن أين أتته هذه الرغبة لأداءِ العمرة.؟! ولكنّها لم تستبعد شيئاً على قدرة الله تعالى وهدايته.. وألحّت عليه أن تصحبه في هذه الرحلة، فهي لا تقلّ عنه شوقاً إلى بيت الله الحرام.. فاعتذر لها بعدم قدرته على تكاليف السفر والإقامة، ووعدها أن تكون معه في سفرة قادمة..

وودّعته بدموع الشوق، والشفقة من الفراق، وطلبت منه الدعاء من قلبٍ يتفطّر حزناً على فوات هذا الخير، والحرمانِ من الأجر..

ومضت الأيّام، وهي تمنّي النفس بحياة جديدة مع زوجها بعد أن يعود من هذه الرحلة المباركة.. وفوجئت ضحوة يوم، وهي مشغولة بأعمال بيتها بالهاتف يرنّ، كان على الطرف الآخر الخطوط الجوّيّة..: " هذا بيت فلان ابن فلان.؟ "

ـ نعم، وماذا تريدون منه.؟!

ـ ومن يتكلّم معِي زوجته.؟! نعم أنا زوجته..

ـ يؤسفنا أن نقولَ لك: إنّ زوجك من جملة المفقودين من الرحلة المتّجهة من "... " إلى " بانكوك "، والتي تحطّمت بعد إقلاعها بنصف ساعة..

ـ ولكنّ زوجي مسافرٌ لأداء العمرة.! هذا كلام غير معقول..

ـ لا يا أختي ! " البيانات عندنا تقول غير ذلك.. يمكنك أن تراجعي المكتب الرئيس للشركة، لتتأكّدي من البيانات المتوفّرة.. وأرجو أن تكون معلوماتي مخطئة، فأعتذر إليك مقدّماً..

فأجهشتْ بالبكاء.. وسقطت سمّاعة الهاتف من يدها.. لقد خدع زوجته بما قال لها، فهل خدع ربّه بما قصد وأراد.؟! ولم لم يحسب حساب هذه الفضيحة في الدنيا قبل فضيحة الآخرة وخزيها.؟!

36 * خاطب بعد حين:

تزوّج أخواه منذ سنين.. ولم يزالا يلحّان عليه أن يعجّل بالزواج، فقد جمع من المال ما يقوم بتكاليف الزواج على أحسن وجه.. فعلام التأخير إذن.؟! فمضى في هذا السبيل، وخطب فتاة صالحة من أسرة تقيم في الرياض.. وفي الطريق إلى الرياض، كانت الفرحة تغمر الجميع.. لقد تحقّقت أمنية أخويه، وها هي الفرحة تخفق أعلامها فوق رءوسهم.. وحديث كلا الأخوين في سيّارتيهما حول ترتيبات الفرح كيف ستكون.؟

وفوجئ الأخوان بالغبار يعلو سيّارة أخيهما، وهو خلفهما بمسافة يسيرة، وأخذت السيّارة تتلوّى على الطريق، وتنقلب عدّة مرّات، وكأنّها في عرض مسرحيّ خادع.. وأخرجت جثّة الخاطب ممزّقة الأوصال.. خرج من بيته خاطباً، وكان يؤمّل رغد العيش مع فتاة الأحلام شريكة العمر، فاختطفته يد المنيّة، دون ما يرجو من الأمنيّة..

37 * هربت من النار فقتلها الدخان:

امرأة صالحة، تقيّة عابدة، كانت قائمة على أسرتها وبيتها خير قيامٍ، لم تبدأ عملها يوماً في المطبخ إلاّ بعد تلاوة ما تيسّر لها من القرآن، وقراءة أذكار الصباح، وصلاة ركعات من الضحى، وكعادتها كلّ يوم.. دخلت المطبخ، وابتدأت عملها، وعندما أشعلت موقد الغاز كان إلى جواره قطعة من القماش قديمة لم تنتبه إليها، فعندما اشتدّت حرارة النار احترق طرفها، فشبّت النار فيها بسرعة، فخشيت على نفسها من محاصرة النار لها، فهربت من المطبخ باتّجاه السطح، لتخبر زوجها من غرفة المنزل العليا، فوجدتها مقفلة.. فبقيت على سلّم المنزل، والنار تبعث من المطبخ دخاناً كثيفاً، وشعر الجيران بذلك، فطرقوا الباب، فسمعوا صوتها تستغيث.. ففتحوا الباب بقوّة فكان كلّ شيءٍ قد انتهى.. لقد ماتت اختناقاً بالدخان..

38 * من الإكرام إلى دار الكرامة:

كان أبو عمر مسارعاً في الخيرات، كريماً مضيافاً، قد أغدق الله عليه المال من كلّ جانبٍ، وكان لا يجد متعته إلاّ عندما ينزل الضيف بساحته، فيجتهد في إكرامه ويتفنّن، ويلتمس رغبات الضيف من حيث لا يشعر الضيف، ثمّ يقدّمها له بأسرع ما يمكن.. تلك كانت عادته وسيرته.. وزاره أحد أصدقائه، وقد طال عهده بلقائه، فلم يجد بدّاً من حبسه إلى الغداء.. ثمّ شعر برغبة صديقه أن يزور شاطئ البحر في جدّة، فسارع إلى تلبية رغبته، بما لا يدع له مجالاً للاعتذار أو التردّد.. وفي طريقه إلى البحر لم يكن مسرعاً تلك السرعة التي تنذر بالخطر.. وهل يقف شيء في وجه القدر.؟! إذ جنحت به سيّارته ذات الشمال، فارتطمت بالرصيف، فردّها إلى اليمين بقوّةٍ، فانقلبت به وبصديقه.. ففاضت روحه إلى بارئها، وكان الموعد مع الموت حقّاً موقوتاً، وحتماًّ مقضيّاً.. وقال الأطبّاء: " نزيف داخليّ "، وقال الموت: لا أعرف ما تقولون من الأسباب.. ".

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين