وقائع وأخبار فهل من مدكر ؟ (7)

ما أكثر الأحداث والوقائع التي يعرفها كلّ إنسان منّا من موت الفجاءة.. الذي دهم بعض الناس على اختلاف أعمارهم وأحوالهم، فكان موتهم عبرة لمن حولهم، ولكنّها عبرة موقوتة قاصرة، ثمّ عاد الناس إلى ما كانوا عليه من لهو وغفلة..

وهذه الوقائع التي أقدّمها لك أخي القارئ ليست من بنات أفكاري، ولا من نسج الخيال، وإنّما هي ممّا أعرف أشخاصه حقّ المعرفة، أو ممّا سمعته من ثقاة الناس، وفيه العبرة والموعظة.. والسعيد من وعظ بغيره..

إنّها قصص ومشاهد واقعيّة، من حياتنا المعاصرة، أرويها لك، ولعلّك قد سمعت ببعضها، ولعلّك تعرف أكثر منها.. ولا نقصد بها شماتة بأحد أو تشهيراً، وإنّما نريد بها العظة للأحياء والاعتبار..

31 * بعدما تابت واستجابت.!

فتن الدنيا شعبٌ وألوانٌ، لا تعدّ، ولا تقف بالإنسان عند حدّ.. إنّها لا تزال تستدرجه في دركاتها حتّى تبلغ به طريق اللاعودة.. إلاّ أن يشاء الله له الخير والهداية..

نشأت حنان في الغرب نشأة مختلفةً كلّ الاختلاف عن أبويها الملتزمين، المتزمّتين في نظرها.. وألفت حياة الحرّيّة بلا حدود ولا ضوابط، ولكنها أنفتْ بحكم فطرتها عن أن تنزلق كما انزلقت الأخريات من بني جنسها وقومها، أمّا الحجاب والصلاة، وسائر ما يميّز المسلم في سلوكه، فقد كانت تراه من نَافلة العمل، الذي يتشدّد فيه بعض الناس كأبويها بدون مبرّر..

وحاورها أبواها دون جدوى، حتّى استيأس أبوها من الجدال معها.. أمّا أمّها فكانت لا تفتأ تحاورها في كلّ مناسبة، فإذا رأت منها عناداً تركتها، وإذا رأت منها ليناً قوي طمعها في هدايتها.. ولكنّ سلوكها لم يزل كما كان، لم يتغيّر ولم يتحوّل..

وفي يوم من أيّام الصيف جاءت إلى البيت وعيناها محتقنتان بالدم من شدّة البكاء، فعندما سألتها أمّها ما الذي جرى لها.؟ أجهشت بالبكاء بصورة شديدة.! فتلطّفت بها، وضمّتها إلى صدرها، ومسحت عَن عينيها.. ثمّ أعادت عليها السؤال: ما الذي جرى لك يا حبيبتي.؟! لقد ماتت صديقتي سوزان.! وكيف ماتت.؟ بحادث سيّارة فظيع، هي وصديقها توني.! خفّفي عنك يا بنيّتي، الموت لابدّ منه، فهذَا مصيْر كلّ حيّ، ولكنّ العاقل هو الذي يفكّر فيما بعْد الموت ؛ ما الذي سيكون عليه حاله ومآله.؟! وقلص الدمع من عيني حنان، وقالت باهتمام: وما الذي سيكون عليه حالنا.؟ كلّ إنسان يا بنيّتي ! على حسب عمله في هذه الحياة.. فإمّا أن يكونَ من أهل السعادة، أو من أهل الشقاء..! وكيف.؟ ألم أقل لك يا حنان دائماً: إنّ الله تعالى لم يخلقنا في هذه الحياة عبثاً، ولم يتركنا سدىً.! فلابدّ من الحساب والسؤال عن كلّ ما قدّم الإنسان، وهناك لا ينفع ندم أو اعتذار.. وأهمّ عملٍ نسأل عنه بعد توحيد الله تعالى والشهادتين هو الصلاة..

ودارت تلك الكلمات برأس حنان، فكأنّها تسمعها لأوّل مرّةٍ.. واعتصمت بالصمت دقائق.. ثمّ استأذنت من والدتها، ودخلت غرفتها..

وبقيت أيّاماً لا يطيب لها طعام ولا منام، لم تخرج من بيتها، بل لم تكد تخرج من غرفتها الخاصّة إلاّ قليلاً.. وكثر اتّصال أصدقائها، وصديقاتها عليها، ولكنّها كانت تعتذر عن الحديث مع أيّ واحد منهم.. ثمّ خرجت عن عزلتها بفكر جديد، وسلوك جديد.. لقد قرّرت التوبَةَ ممّا كانت عليه، فتغيّرَت حياتها كلّها، وأصبحت إنسانة أخرى بكلّ معنى الكلمة.. وجاءت أشهر الحجّ، فقرّر والداها أن يحجَّا هذا العام، فطلبت منهما أن تكون في صحبتهما، فوافقا بكلّ ترحيب ورغبة..

وفي مكّة كانت سعادتها برؤية الكعبةِ لا توصف ولا تقدّر، فلم تكن لتبرح الحرم إلاّ لنوم أو حاجةٍ ضروريّة..

ثمّ حدث ما لم يكن في حسبان أحد.. ففي ليلةٍ من الليالي شبّ حريْق في السكن، وهبّ الناس فَزِعِيْن على أصوات الناس ورائحة الدخان، وكانت كارثة إنسانيّة مروّعة، ذهب ضحيّتها عدد من الحجّاج الأبرار.. وكان حظّ حنان أن استأثرت بها رحمة الله تعالى، وهي في أقدس البقاع، وأحبّها إلى الله تعالى..  فكانت مع هؤلاء الشهداء، نحسبهم كذلك بإذن الله..

32 * بين محاضرتين..

كانت حياته دعوة إلى الله تعالى وجهاداً في سبيل دينه، لم تلن له قناة، ولم تفتر له عزيمة.. وكبر سنّه وضعفت قواه، ونصحه الأطبّاء أن يخفّف عن نفسه، فصحّته لا تسمح له بمثل ما يقدّم من جهد.. ولكنّه لم يحد عن سيرته منذ شبابه.. بل كان كلّما تقدّم به العمر وجد نفسه في سباق مع الأجل، يقتضيه أن يجتهد أكثر في العمل.. لقد كان يشهد له كلّ من عرفه، أنّه قدّم الكثير لدينه.. ولكنّه كان لا يشهد نفسه بمثل ذلك، ولا بأقلّ من ذلك.. إنّه يرى نفسه مقصّراً مفرّطاً، فكيف يغترّ بكلام الناس عنه.؟! وهذا ما كان يدفعه إلى مزيدٍ من العطاء والتضحية..

لقد آلى على نفسه ألاّ يدعى إلى خير إلاّ استجاب له، وألاّ يطلب منه معروف إلاّ وسارع في بذله.. أوليس ذلك من حقّ العلم عليه، وقد وهب حياته له، وأبلى شبابه في طلبه.؟!

وفي مؤتمر من ملتقيات الدعوة إلى الله تعالى والتدارس لهمومها، كان قبل المؤتمر يشعر بضعف قواه، ووهن جسده، ولكنّه حمل نفسه على الحضور والمشاركة حملاً، واستحضر في نفسه حرص الإخوة القائمين على المؤتمر، ومدى تأثّرهم لغيابه، فقويت عزيمته، وعظمت همّته، فحضر وأعدّ ما يشارك فيه إخوانه العلماء والدعاة، وفي محاضرة من المحاضرات كان القلم بين أصبعيه، وبعض الأوراق بين يديه، يكتب فيها بعض ملاحظاته.. وبعد المحاضرة تجمّع بين يديه كثير من المشاركين، بين مسلّم عليه، ومستفسرٍ عن صحّته، ومعبّر عن مشاعره نحوه، ثمّ استأذن إخوانه ليجلس في مكتب للاستراحة، ومع ذلك فلم يتركه بعض الناس..

وفي المكتب كان يستمع لأحد محدّثيه باهتمام، فقطع كلام محدّثه، وقال: لا إله إلاّ الله.. وأسلم الروح إلى بارئها..

33 * مات في الصلاة.. وفي الطريق إلى بيت الله.. !

شابّ طالب علم مُجِدّ، يتلألأ وجهه بشراً وصفاءً، ويقطر حديثه رقّة ولطفاً، حسن الهيئة والسمت، إمام وخطيب مسجد، ويا ليت كثيراً من الخطباء والأئمّة كانوا مثله، في طيب حديثه، وحسن معشره، ولطفه وذوقه، كان من برّه بمشايخه أنّه لا ينقطع عن مجالسهم وزيارتهم، وكان من أمره العجب: أنّه لا يفتر عن ذكر الشهادة في كلّ مناسبة، وكثيراً ما ساءل إخوانه وجلساءه: ترى هل يكرمنا الله تعالى بالشهادة في سبيله.؟!

وجاءت أشهر الحجّ فعزم على أداء الفريضة، وبدأ بزيارة المدينة المنوّرة، ثمّ أحرم بالحجّ، ومعه زوجته وأولاده، واتّجه إلى مكّة المكرّمة، وعلى مقربة من مكّة المكرّمة نزل يصلّي صلاة المغرب، ووقفت سيّارات أخرى للصلاة مع الجماعة، واجتمع وراءه ما لا يقلّ عن خمسين مُصَلٍّ، وبينما هم في الصلاة إذ جاءت سيّارة مسرعةً سرعة هائجة، كأنّها العاصفة العَاتية.. فدعسته وهو قائم يصلّي، فمات من لحظته.. وأصابت آخرين كانوا وراءه بجروحٍ مختلفة..

ودفن في مكّة المكرّمة محرماً، ويبعث يوم القيامة محرماً ملبّياً، ونحسب هذه الخاتمة شهادة في سبيل الله.! طالما تمنّاها، وتحدّث عنها..

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين