وقائع وأخبار فهل من مدكر ؟ (5)


ما أكثر الأحداث والوقائع التي يعرفها كلّ إنسان منّا من موت الفجاءة.. الذي دهم بعض الناس على اختلاف أعمارهم وأحوالهم، فكان موتهم عبرة لمن حولهم، ولكنّها عبرة موقوتة قاصرة، ثمّ عاد الناس إلى ما كانوا عليه من لهو وغفلة..

وهذه الوقائع التي أقدّمها لك أخي القارئ ليست من بنات أفكاري، ولا من نسج الخيال، وإنّما هي ممّا أعرف أشخاصه حقّ المعرفة، أو ممّا سمعته من ثقاة الناس، وفيه العبرة والموعظة.. والسعيد من وعظ بغيره..

إنّها قصص ومشاهد واقعيّة، من حياتنا المعاصرة، أرويها لك، ولعلّك قد سمعت ببعضها، ولعلّك تعرف أكثر منها.. ولا نقصد بها شماتة بأحد أو تشهيراً، وإنّما نريد بها العظة للأحياء والاعتبار..

24 *  كيف فارق شيخنا الحياة.؟

فاجأ المرض العضال أستاذنا الشيخ أحمد عزّ الدين البيانونيّ، كما فاجأ أهله وتلامذته ومحبّيه، وكان في غاية الصحّة والعافية والنشاط، وهنا يتجلّى إيمان المؤمن بالله تعالى ورضاه وتسليمه.. فاستقبل الشيخ ذلك بغاية التسليم والرضا عن ربّه، واشتدّت عليه وطأة الآلام حتّى قال أطبّاؤه: " لو يعلم أعداؤه بآلامه لرحموه وأشفقوا عليه "، فصبر واحتسب، ولم يسمع منه شيء من الشكوى أو الضجر، واختفى صوته، فقال لنا ولمن كان يزوره من تلامذته ومحبّيه: " إنّ الله تعالى يريد منّي ألاّ يسمع صوتي أحد.. " وكان رحمه الله يصبّر من جاء لزيارته من  تلامذته ومحبّيه.. وسافر به أبناؤه في رحلة علاج دامت أسابيع، ثمّ عاد إلينا، وقد اختفى صوته إلاّ شيئاً يسيراً، فما رأينا منه رحمه الله إلاّ التسليم والرضا عن ربّه تعالى، واستقبل الزائرين المحبّين، وهو صامت لا يتكلّم، ولم يكن من عادته ذلك.. فشقّ الأمر عليه وعلى زائريه.. فأملى على بعض أولاده الكلمات التالية، لتقرأ على زائريه أثناء زيارته:

" بسم الله الرحمن الرحيم. يحبّ الشيخ أن يتحدّث إليكم بعد هذا الغياب الطويل، وتشقّ عليه كثرة الكلام، فهو يحبّ أن يسمعكم بعض ما يحبّ أن يتحدّث به إليكم:

1 ـ قال الله تعالى: { اللهُ الذي خَلَقَكُم مِن ضَعفٍ، ثُمّ جَعَلَ مِن بَعدِ ضَعفٍ قُوّةً، ثُمّ جَعَلَ مِن بَعدِ قُوّةٍ ضَعفاً وَشَيبةً.. }.

ومن حكمة ذلك: أنّ الإنسان الغفول الجهول، وهو في حال القوّة والصحّة والغنى إذا دعا الله تعالى لا يكون دعاؤه من أعماق القلب، كما لو دعاه في حال الضعف والعلّة، والألم والفقر.

والله تعالى خلق الإنسان لعبوديّته، ولا تتحقّق العبوديّة الصادقة إلاّ بالضراعة والدعاء من أعماق القلب، بقول العبد: يا ربّ ! يا ربّ !

والله تعالى حكيم رحيم، يردّ العبد في شيخوخته وهرمه إلى ضعفه، فيلجأ إلى الله بضراعةٍ صادقة، وعبوديّة حقّة، وفي الحديث الشريف: ( إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط ). ونعوذ بالله من عبدٍ أحمقَ جاهل، لا يرضى عن ربّه، فيما يقدّره ويقضيه، وهو الإله الحكيم الكريم، الرءوف الرحيم.؟!

2 ـ وبعد هذا كلّه فالعبد ملك لله، والمالك يتصرّف في ملكه بما يشاء، ولهذا بشّر  الله الصابرين ووعدهم بالأجر الوفير، الذي لم يبشّر به سواهم، قال تعالى: { وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ }، { إنّما يُوَفّى الصابِرُونَ أجرَهُم بِغيرِ حِسَابٍ }، وذكر الله الصبر في القرآن الكريم بين الأمر به، والحضّ عليه في أكثر من ستّين مرّة..

3 ـ مظاهر العبوديّة لله كثيرة، من صلاة وصيام وإنفاقٍ وحجّ، وتلاوة للقرآن الكريم.. ولكن في هذه كلّها حظّ للنفس، يتلذّذ المتعبّد بعبادته، والذاكر بذكره.. أمّا البلاء والآلام والأسقام إذا نزلت بالعبد شديدة مؤلمة، فلا حظّ للنفس فيها، وإنّه يضرع إلى الله تعالى في كشف البلاء، وضراعته هذه في دقائق أكثر تطهيراً لنفسه، ورفعاً في درجاته من كثير صلاة وصيام ونحو ذلك..

4 ـ إذا عرف العبد هذا عاش راضياً عن ربّه سبحانه وتعالى، في الفقر والغنى، والقوّة والضعف، والصحّة والمرض، واللذّة والألم.

نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة ".

وعندما حضرت شيخنا الشيخ أحمد الوفاة، وكان طيلة مرضه، لا يترك أدباً من آداب الشريعة أو سنّة من سنن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وجاء يوم الجمعة السابع عشر من ذي الحجة من عام /1395/ هـ، صلى الشيخ صلاة الفجر فى فراشه، ثمّ اضطجع ونام قليلاً، ثم استيقظ ضحىً وجلس، ثم جاءته حالة غريبة، فوقف أهله وأولاده مذهولين، إذ انبعثت من داخل جوفه كلمة: " الله ! الله ! "، بصوت قوي مسموع، وكان صوته مختفياً مدة مرضه، لا تسمع منه إلا همساً خفيفاً، فما زال يكرر هذه الكلمة العظيمة الجليلة، بمثل هذا الصوت، ويتحرك بها صدره بقوة، أكثر من نصف ساعة، ثم انقطع صوته فجأة، وسكنت أطرافه، وفاضت روحه إلى بارئها. رحمه الله وأجزل مثوبته.. وهكذا يكرم الله تعالى الصالحين من عباده، فما عاشوا عليه في حياتهم، من أحوال إيمانيّة، سلوكيّة وقلبيّة، وكانت عنوان حياتهم، وسرّ سعادتهم وطمأنينتهم تختم به حياتهم، ليقدموا على ربّهم بأحسن الأعمال والأحوال، نسأل الله تعالى أن يكرمنا بذلك بمحض فضله وكرمه.. إنّه سميع مجيب، وهو أكرم مسئول.

25 * مات ساجداً يدعو ربّه..

كان كثيراً ما يدعو ربّه أن يموت ساجداً.. وألف أولاده منه هذه الدعوة فلم تعد تسترعي اهتمامهم.. وكان قد اعتاد أن يستيقظ قبل الفجر بساعتين يتوضّأ، ويصلّي ما تيسّر له، ثمّ يضع أمامه المصحف يتلو ويدعو عند أكثر ما يتلو من الآيات، فإذا بقي لأذان الفجر نصف ساعةٍ تقريباً، قام وتوجّه إلى المسجد ليصلّي الفجر، ويمكث في المسجد إلى شروق الشمس، ثمّ يعود إلى بيته..

وفي هذا اليوم استيقظ كعادته، ولكنّه أيقظ العجوز، وطلب منها أن تتّصل بأولادها جميعاً ليودّعهم.! فدهشت لقوله وفوجئت، ولكنّها لم تملك أمام إصراره سوى أن تستجيب له، وأخذت الهاتف، وبدأت تتّصل بأولادهم جميعاً وتوقظهم على خبر مفاجئ أنّ والدهم يطلب منهم الحضور إليه.. بينما أبو قائد توضّأ وأخذ يصلّي ركعتين بعد ركعتين، وبعد التسليم من كلّ ركعتين كان يسأل زوجته هل حضر الأولاد.. وفي سجود الركعة الثامنة كانت الضجّة تملأ بهو المنزل، فخرجت الأمّ لاستقبال من حضر من أولادها.. وانشغلت بالسلام عليهم دقائق، ثمّ دخل الجميع إلى بيت الوالد، فرأته على حالته من السجود التي كان عليها، فارتابت في الأمر، واقتربت منه، ومسّت ساقه لتجد برد الموت قد سكن جسده.. فصاحت بغير شعور منها: " لقد مات ساجداً.! لقد مات ساجداً.! ".

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين