وقائع وأخبار فهل من مدّكِر ؟ (2)

ما أكثر الأحداث والوقائع التي يعرفها كلّ إنسان منّا من موت الفجاءة.. الذي دهم بعض الناس على اختلاف أعمارهم وأحوالهم، فكان موتهم عبرة لمن حولهم، ولكنّها عبرة موقوتة قاصرة، ثمّ عاد الناس إلى ما كانوا عليه من لهو وغفلة..

وهذه الوقائع التي أقدّمها لك أخي القارئ ليست من بنات أفكاري، ولا من نسج الخيال، وإنّما هي ممّا أعرف أشخاصه حقّ المعرفة، أو ممّا سمعته من ثقاة الناس، وفيه العبرة والموعظة.. والسعيد من وعظ بغيره..

إنّها قصص ومشاهد واقعيّة، من حياتنا المعاصرة، أرويها لك، ولعلّك قد سمعت ببعضها، ولعلّك تعرف أكثر منها.. ولا نقصد بها شماتة بأحد أو تشهيراً، وإنّما نريد بها العظة للأحياء والاعتبار..

7 * نام ولم يستيقظ..

قبل أن ينام حدّثته نفسه أن يفطر في الغد عند ولده عبد الله.! فعقد العزم على ذلك.. وفي الصباح الباكر، مرّ على مخزن ولده فوجده مفتوحاً، فسلّم عليه، وقال له: أريد أن نفطر معاً فائتنا بالفول وقرص من " خبز البرّ " إلى هنا.. فأبى عليه ولده إلاّ أن يذهبا إلى البيت فهو قريب، وزوجته تعدّ لهم إلى جانب الفول أطباقاً أخرى من طيّب الطعام.. فاستجاب لولده.. واحتفت به زوجة ولده.. وأفطروا جميعاً، ثمّ بدا له أن ينام مكانه.. فألحّت عليه زوجة ولده.. أن يتوجّه إلى غرفةٍ بعيدة عن ضجّة الأولاد وأصواتهم، فاستجاب لها.. ونام نومته تلك ولم يستيقظ..!

8 * مزرعة لا مثيل لها..! 

" لن تمضي على هذه المزرعة خمس سنوات، حتّى تكون أحسن مزرعة، وأجمل مزرعة في سوريّة كلّها..! " كانت هذه كلماته مع جميع أصحابه وزملائه، وفي كلّ مناسبة.. وقضى وقته في مزرعته، لا يدّخر جهداً ولا مالاً.. وكانت تحتضن منزلاً قد بلغ به الفنّ المعماريّ غايته.. وفرّط في سبيل ذلك بجلّ واجباته، لقد كانت معشوقته من الدنيا، ينام على التفكير فيها، ويصحو على ذلك، ومنذ ثلاث سنوات لا يعرف أهله أنّه أعطاهم شيئاً من وقته، ليرفّههم، ويروّح عن أنفسهم، كما يفعل كثير من الآباء.. وكلّما ثارت عليه زوجته وأولاده كان يقول لهم: عندما تكتمل المزرعة يكون كلّ شيء.! فتعتصم زوجته بالصمت، وتعلّل نفسها بالأماني.. والأنكى من ذلك كلّه والأمرّ أنّ هذه المزرعة المعشوقة قد حملته على مدّ يديه بل ذراعيه إلى الحرام من الرشوة والاختلاس.! إنّها تتطلّب منه المال بغير حساب.. وراتبه المحدود لا يفي بنفقات أسرته، فأنى له أن يفي بمطالبها.؟! وغاب كعادته يوم الجمعة عن البيت.. إنّه ولا شكّ في المزرعة، ولكنّ غاب يوم السبت عن عمله، واتّصل زملاؤه بالبيت، فقيل لهم: إنّه في العمل.! فأخبروا زوجته أنّه لم يحضر إلى عمله هذا اليوم.. فدخلتها الريبة لغيابه، فأرسلت أخاها ليتفقّده.. فاتّصل بها ليخبرها أنّه وجده ملقىً على الأرض أمام درجات منزله في المزرعة.. كان ميتاً قبل أن يدخله..

أفما كان حريّاً بك أيّها الإنسان أن تعير شيئاً من اهتمامك لمزرعة الآخرة.؟! ولا مفرّ لك منها.!

9 * المتنافسات في الطعام..

منذ أشهر وهي في مباراة شديدة مع زميلاتها: من منهنّ تستطيع أن تصنع أطباقاً من الطعام أكثر خلال أربع ساعات في المطبخ.؟ وكانت هي وإحداهنّ كفرسي رهان.. " لقد صنعت حنان في الأسبوع سبعة أطباق.. ولابدّ أن أغلبها هذا الأسبوع " هذا ما قالته لزوجها في الصباح، قبل أن يخرج لعمله.. فضحك من تفكيرها كعادته، وقال لها: أسأل الله تعالى أن يشغلكنّ بما ينفع.! وقبل أن يرجع من عمله اتّصل بين ساعة وأخرى ثلاث مرّات أو أربع، ليطمئنّ على نجاح زوجته في مهمّتها.. ولكنّها لم تستجب للهاتف في كلّ مرّة: " لابدّ أنّها منهمكة في المطبخ إلى رأسها فلا تسمع الهاتف.. أو أنّها تسمع ولا تستجيب، لأنّها تريد كسب الوقت فلا وقت للهاتف اليوم.! " وعاد من عمله، وهو يعدّ في نفسه كلاماً يداعبها به.. إنّها مرهقة حقّاً.. ولاشكّ أنّها غارقة في عملها.. " فلأخفّف عنها ببعض المداعبات.! " ودخل البيت فأحسّ بالسكون المخيف يخيّم عليه.. لا حركة ولا حِسّ.! ودخل غرفته وغيّر ثيابه، وخرج يتنحنح بصوته كيلا يفاجئ زوجته بغير شعور منها.. وعندما دخل المطبخ.. وجدها في أرض المطبخ واقعة على وجهها، وطبق الطعام بين يديها..

لقد ماتت منذ اللحظات الأولى من الصباح.. قبل أن تعدّ أيّ طبق من الطعام.!

10 *  كان يسمع الهجاء من خصمه..!

التنافس بين الناس على سراب الدنيا وأوهامها قصّة قديمة متجدّدة.. كم أريقت في سبيلها من دماء.! وكم انتهكت لأجلها من حرمات.! وكم اقترف الإنسان من مظالم.! وكم زيّنت الظلم للظالم.! ثمّ مضى المظلوم وظالمه، لم يأخذ أحد منهما من نشب الدنيا كثيراً ولا قليلاً.. لقد مضوا إلى الحكم العدل، الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يتجاوزه ظلم ظالم..

كانوا في نظر الناس أدباء محترمين، ولكنّ بعضهم لم يعرف من الأدب إلاّ اسمه.. اشتدّ بينهم التنافس، حتّى بلغ حدّ الكيد الذي لا يعرفه إلاّ السفهاء.. فسعى بعض العقلاء ليصلحوا بينهم، وليتهم لم يسعوا، ولم يجمعوا، وكان أحدهم مغروراً بنفسه أشدّ الغرور.. عنيداً مشاكساً، قد أوتي لساناً سليطاً، يهذر بأقذع الكلام وأمرّه.. فكان يأبى الصلح أو اللقاء، ولكنّه استجاب بعد طول التأبّي، وفرح المصلح، واستبشر خيراً، فهذا اللقاء سيجدّد عهود الطفولة والنشأة، التي جمعت بينهم دهراً طويلاً.. وعزم المصلح إن تمّ هذا الأمر، أن يصنع لهم حفلة طعام، تكون حديث المجالس بين الناس.. وذلك بعض مقدوره، إذ هو من سراة الناس وأغنيائهم..

وافتتح المصلح المجلس بأصحابه، وتلطّف بالقول، ونثر من بديع الشعر، وقصص الاعتذار والودّ، ما يرقّق القلوب ويصفّيها، ويخلص النفوس ويزكّيها.. واستأذن بعده بالقول ذلك العنيد المشاكس، وعندما أذن له، أخذ يهدر بأنواع من الهجاء المقذع، والسباب الأدبيّ المفحش، تجاه صاحبه الذي كان يهجره.. وعبثاً حاول معه الرجل المصلح، وهو لا تهدأ له ثائرة، ولا يكفّ لسانه، وكأنّه المدفع الآليّ يهدر بالحمم والنار.. وصاحبه الذي يُسَبُّ فاغر فاه، وكأنّه في عالم آخر لا يسمع ولا يعي.! وهدأ لحظات ذلك الشكِس البذِيء.. فسمع عندها الحاضرون من صاحبه كلمة واحدة.! لقد قال: آه ! وفارق الحياة وحسبُ ذلك الشكِس البذِيء أنّه قاتل عمدٍ بلسانه.! فهل يحكم عليه القضاة بذلك.؟ وأيّهما أهون عنده أهذه الدنيا أم هذه الخصومة.!؟

11 * اجتمعوا على والفساد الخمر..

رهط من أخلاّء السوء، قد اجتمعت لهم الأموال بغير حساب، وامتلأت أجسادهم بالقوّة والعافية، وطالت أوقات فراغهم وامتدّت، فكانت هذه الثلاث خمر النفوس الفارغة، والتقت بها خمر الكئوس، فكانت الليالي الطويلة تمرّ بهم، وكأنّها لحظات قليلة.. ويتشابه هؤلاء الآخرون بأولئك الأوّلين، الذين قال مغرورهم الأفّاك، وهو يغنّي لأصحابه:

حرام على هذي الديار مماتها  ** وحقّ لها أن تطرب الدهرَ والمدى..

ويا أيّها الناعي المذكّر إنّنا ** تقوم بنا الدنيا ويخطئنا الردى

وطاب لهم المجلس يوماً فيما يظنّون، وهم يأكلون ويلهون، ويحتسون ما حرّم الله عزّ وجلّ من الشراب.. فشرِق أحدهم ببعض طعامه، فحاول أن يسعفه بعض أصحابه، وهم يعبثون ويضحكون، وما علموا أنّ أجله كان يتربّص به، فمات بين أيديهم وهم لا يصدّقون.!

12 * " ما بدّي أموت ! ما بدّي أموت ! "

كان في الخمسين من العمر، ولكنّ من يراه يحسبه لا يتجاوز الثلاثين، لما أنّ الترفيه والبعد عن أيّ همّ قد عملا في نفسه عملهما، ولعلّ التظاهر بالشباب القوّة لهما في ذلك أثر وأيّ أثر..

وما دامت القوّة والعافية لغيره لتدوم له، ففاجأه الداء الخبيث ينخر في مخّه من حيث لا يدري.. وقرّر أولاده أن يخفوا عنه حقيقة مرضه، ممّا جعله لا يراه إلاّ وعكةً عارضة سرعَان مَا تزول، ويعود إلى ما كان عليه من اللهو والمجون، وتردّد إليه رفاق السوء وبائعات الهوى، وهم لا يفتئون يحدّثونه ببضاعة السوء.. ووجد نفسه دونهم أسيراً أو أشبه بالسجين، فكان يتطلّب من أطبّائه الخروج السريع من المستشفى، وهم يرون صحّته تتدهور وتسوء يوماً بعد يوم، ولا يستطيعون إخباره، إلاّ أنّهم يعلّلونه بضرورة الإشراف عليه، ومتابعة التحاليل الطبّيّة المتنوّعة، وكان يثور على أولاده بين الحين والآخر، يطالبهم أن يخرجوه من المستشفى، فلا يملكون إلاّ تعليله وتعليقه بالأمل.. وتدهورت صحّته، حتّى شارف الموت وقاربه، ولكنّ العودة إلى الدنيا ولهوها وعبثه فيها لا تزال تداعب خواطره.. ودخل في مراحل المرض الأخيرة، مراحل الغيبوبة الخطرة، وكان أحد أولاده البررة يلازمه ليل نهار، بينما تخلّى عنه العاقّ ومن يشبه العاقّ.. فكان عندما يصحو يذكّره ولده بوصيّته، وماذا يريد أن يقدّم لنفسه من أمواله وملايينه.. فكان يغضب من ولده، ويقول له: " ما بدّي أموت ! ما بدّي أموت ! "، ووصل إلى اللحظات الأخيرة من العمر فأخذ ولده يذكّره بالشهادة برفق، ويذكرها أمامه، فكان ينظر إليه بغضب، ويقول له:

" ما بدّي أموت ! ما بدّي أموت ! " ونزعت منه الروح وهو يقول: " ما بدّي أموت ! ما بدّي أموت ! ".

13 * لاهث بسيّارته.. يمشي بها مرحاً..

واحزناه ! ماذا جنى البعيد عن ربّه.؟! إنّه لم يجنِ إلاّ على نفسه.!

كان يعبث بسيّارته الجديدة يمنة ويسرة، ويرعب البعيدين قبل القريبين، حتّى كانت الكارثة.. وما أكثر أمثالها.! فهل من مدّكر.؟!

وهل رأيت أسفه ممّن كان الحديد أعزّ عليه من نفسه.. كانت جراحه تنزف بشدّة.. وروحه تنزع، وهو بين الحياة والموت، ويقول لمن يريد إسعافه: السيّارة.! السيّارة.! ماذا جرى للسيّارة.؟

فثار عليه بعض من حوله، وقال له: السيّارة بستّين داهية ! روحك أهمّ يا بنيّ.. فأخذ يصيح بأعلى صوته ويئنّ: آه يا أمّي.. السيّارة ! آه يا أمّي.. السيّارة ! ولم تصل سيّارة الإسعاف إلاّ بعد أن انقطع صوته، وهدأت نفسه ! لقد فارق الحياة ! ولم يتمتّع بهذه السيّارة سوى بضعة أيّام.!

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين