وقائع وأخبار فهل من مدكر ؟ (10)

ما أكثر الأحداث والوقائع التي يعرفها كلّ إنسان منّا من موت الفجاءة.. الذي دهم بعض الناس على اختلاف أعمارهم وأحوالهم، فكان موتهم عبرة لمن حولهم، ولكنّها عبرة موقوتة قاصرة، ثمّ عاد الناس إلى ما كانوا عليه من لهو وغفلة..

وهذه الوقائع التي أقدّمها لك أخي القارئ ليست من بنات أفكاري، ولا من نسج الخيال، وإنّما هي ممّا أعرف أشخاصه حقّ المعرفة، أو ممّا سمعته من ثقاة الناس، وفيه العبرة والموعظة.. والسعيد من وعظ بغيره..

إنّها قصص ومشاهد واقعيّة، من حياتنا المعاصرة، أرويها لك، ولعلّك قد سمعت ببعضها، ولعلّك تعرف أكثر منها.. ولا نقصد بها شماتة بأحد أو تشهيراً، وإنّما نريد بها العظة للأحياء والاعتبار..

44 * شبح الموت:

شابّ في مقتبل العمر، ممتلئٌ قوّةً ونشاطاً، بدأ العمل في متجر والده، فأقبلت عليه الدنيا بأحلامها الورديّة، وآمالها العريضة، فأقبل عليها بنهم الشباب، فكان لا يعرف تعباً ليعرف راحة لبدنه، وكان يعجب إذا رأى والده أو أحداً من أهله يمرض بعض الأحيان، ويقول في نفسه: كيف يمرض هؤلاء الناس.! ومرض مرّة بنزلة برد شديدة، فلزم الفراش أيّاماً، فعندما عاده والده قال له: أظنّ أنّ مرضي هو مرض الموت.! فضحك والده بملء فيه، وقال له: مرضك يا بني مرض الأكابر، إنّه مرض لا يعاد به المريض شرعاً.! 

فقال له: لا تهزأ منّي يا أبي ! أحسّ أنّ شبح الموت يقترب منّي، بل يحيط بي.. فضحك والده أكثر، وقال له: أنت صاحب وهم يا بنيّ..

واشتدّ مرضه بعد أيّام، وحار بتشخيصه الأطبّاء، فازداد يقينه بما يقول.. وتمادى به المرض يوماً بعد يوم، والشابّ يزداد يقيناً أنّه مريض مرض الموت.. ثمّ اكتشف الأطبّاء أنّه مريض بسرطان الدم، وأنّ المرض في مرحلة متقدّمة.. واجتهد والده في مداواته، وبذل ما يستطيع من ماله، ولكن دون جدوى.. وجاءته حال من الاستسلام لأمر الله تعالى، والرضا عن الله لا توصف، لأنّ بعض المشايخ بشّره بأنّ من يموت بهذا المرض هو من الشهداء بإذن الله..

ولم يزل يتمادى به المرض، حتّى كانت النهاية المنتظرة.. ولكلّ أجل كتاب.. فويح الشباب الغافل عن الشباب الآفل..

45 * راكض إلى الله !

شابّ ناشئ في طاعة الله، جميل الصورة، حسن الهيئة، يتلألأ وجهه بنور الطاعة والإيمان، خلوق مهذّب، حيِيٌّ لا يعرف إلاّ الجدّ، والاشتغال بما يعنيه.. رأيته في صلاة الفجر أيّاماً فأحببته من قلبي، فسألت عنه فقيل لي: إنّه قريب فلان.. فقلت: لا عجب ! فالشيء من معدنه لا يستغرب.. ثمّ افتقدته مدّة، فسألت عنه قريبه فقال لي: رحمه الله، نحسبه شهيداً.. قلت: وماذا تقول.؟! أنا أقصد فلاناً، وأخذت  أعدّد له أوصافه، فقال لي: قد عرفت من تقصد.. لقد استأذن أمّه لزيارة أخواله في طاجاكستان، فأذنت له، وعندما وصل إلى هناك، وقام الجهاد في بلاد الشيشان، أرسل يستأذنها بغاية الأدب والبرّ أن يجاهد مع إخوانه في الشيشان، فقد قامت سوقُ الجهاد هناك.. فأذنت له، وكانت امرأة صالحة، وعندما سئلت: كيف أذنت له، وهو وحيدك.؟! قالت: " أنا على يقين أنّ جهاده لا يقدّم أجله، وأنّ قعوده لا يزيد في عمره.. فكيف أمنعه من أمرٍ يطلب به مرضاة ربّه.؟! "، ومضى في سبيله، وشحّت الأخبار عنه، وأصبحنا نتتبّع أخبار الشيشان لعلّنا نصل إلى شيء من أخباره..

ثمّ جاءنا الخبر الذي لم يكن مستغرباً: أنّ الشابّ قضى على أرض الشيشان شهيداً.. وتأكّد الخبر برسالة تعزيةٍ ومواساةٍ لأمّه، وأنّه كان صائماً يوم استشهاده، ووصّى من معه أن يبلّغوا أمّه سلامه، ويوصوها بالصبر والاحتساب، ويطلبوا منها الدعاء له، والعفو عن تقصيره..

( رحمه الله، ولله درّه ! لقد أحسن اختيار الموتة التي يموت.. ومن صدق الله صدقه.. ).

46 * لم ينس ذكر الموت:

صديق صدوق، في العقد الرابع من العمر، معلّم بفطرته، ومربٍّ بأحواله قبل أقواله، لا يمكن أن يمرّ به مجلس دون أن يعلّم ويذكّر، وينصح ويوجّه، ولم يعرف عنه إلاّ الرفق بالناس وحسن الخلقِ، أعرفه بهذه الخلال منذ أكثر من عشرين سنة..  وكان ذكر الموت لا يبرح لسانه في كلّ مجلس.. وعندما سئل من قبل بعض محبّيه: لماذا تكثر من ذكر الموت قال: لأنّني من أهل الغفلة، فأحبّ أن أوقظ قلبي.. وأشعر أن الموت سيأتيني فجأة.. فأريد أن أكون مستعدّاً لنزوله قبل نزوله..

خرج من حلب إلى بعض الضواحي لزيارة أحد إخوانه ومحبّيه، وقال لزوجته: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.. فقالت له: ومتى ستعود إن شاء الله.؟ فقال لها لأوّل مرّة وهو يضحك: وهل يدري أحد متى سيعود.؟ الأمر لله.. وفي الطريق حدث في السيّارة خلل فانقلبت به، وتوفّي في ساعته، وسلم من كان معه.. { قل: لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم.. () } آل عمران.

47 * مات الزائر وشفي المزور:

صديقان ودودان، كانا من أخلص زملاء العمل وأصفاهم، أصيب أحدهما بداء فى القلب خطير، فنقل إلى المستشفى، وخلال يومين قرّر له الأطبّاء إجراء عمليّة سريعة في القلب، وإلاّ فإنّ حياته في خطر.. وأجريت له العمليّة، وكانت ناجحة فيما يبدو.. ولكنّه بعد أيّام دخل في غيبوبة، وبقي على ذلك قرابة شهر، حتّى استيأسنا من شفائه.. وكان زميلنا أبو عمرو برّاً بصديقه غاية البرّ، لا ينقطع عن زيارته كلّ يوم، ويقول: إنّه في غربة عن أهله، ولابدّ أن نكون بجواره..

ودخلنا المدرسة ذات يوم وإذ بالخبر شائع بين الطلاّب أنّ مدرّساً قد توفّي هذه الليلة، فذهب بنا الظنّ إلى ذلك الراقد على سرير المرض منذ أسابيع.. ثمّ جاء الخبر أنّ المتوفّى أبو عمرو.. فقلت أنا أحد الناس، وتلك من غفلتنا: " غير معقول.. إنّه سليم معافى.! " وتأكّد الخبر بعد قليل أنّ المتوفّى أبو عمرو.. وأنّ الراقد في المستشفى لا يزال على قيد الحياة.. لقد كان بالأمس يحدّثني وأحدّثه.. ثمّ زار صديقه في المستشفى، ثمّ عاد إلى البيت، فأحسّ بآلام شديدة في بطنه، فذهب إلى المستشفى، فقيل له: لابدّ من إجراء تحاليل شاملة، وبينما كانوا يجرون له تلكَ التحاليل تدهورت صحّته، وأخذ يتقيّأ دماً، ثمّ أغمي عليه وفارقَ الحياة.. وأمّا زميلنا الآخر فقد شفي، وعاد إلى عمله، ومتّع بالحياة والعافية إلى حين..

48 * ودّع أصحابه قبل أن يودّع الحياة:

كان شابّاً طالب علم، حافظاً لكتاب الله، ملء السمع والبصر، يزينه الخلق الكريم والأدب الجمّ، برّاً بوالديه لم يعرف عنه موقف هفوة مع أحدهما أو سوء أدب، يسارع في خدمة الناس ولا يتلكّأ، فلا عجب أن كثر أحبابه وأصدقاؤه، وكانت منزلته الرفيعة بين الناس لا تتناسب مع حداثة سنّه..

وأدّى العمرة، وودّع أصحابه، وكان برفقته أحد أعزّ أصدقائه، فيحدّث عنه أنّه حمل معه كلّ ثيابه في سفره، وعندما سأله عن سبب ذلك قال له: أريد أن أتصدّق بها.. أليس من المستحسن أن يفعل المؤمن ذلك بين الحين والآخر..

وفي الطريق ما بين دمشق وحلب هاجمته سيّارة شحن، فلم يستطع منها مهرباً.. وكانت تحمل له قدر حِمامه..

وجاء الخبر.. فبكته أعين بسخاء.. كانت ترى فيه حلماً وأملاً.. ولكن ما يجدي البكاء.؟!

هكذا تذبل نضرة الحياة.. هكذا تطبق الشفاه.. هكذا ينسخ الحلم الجميل.. كما اختفى السراب.. وإلى الله المرجع والمآب..

49 * عبث أم خطفة النومِ أم الموت:

كان في مرحلة الثانويّة العامّة صاحب ذكاء متميّز، محبوباً بين رفاقه، متقدّماً عليهم في دراسته، يمنّي والداه نفسهما أن يدخل كلّيّة الطبّ، فيكون طبيباً، يعتزّون به بين الناس.. وما أكثر ما حالت المنيّة دون الأمنيّة.!

هل للإنسان أن يختبئ من القدر أو يفرّ.؟ هيهات ! هيهات ! فعلى الرغم من تواصل أبي سالم مع جميع أهله وأقاربه، وحرصه على المشاركة لهم في كلّ مناسبة.. إلاّ أنّه أحسّ بضيق في صدره، ورغبةٍ شديدة ألاّ يحضر عرس ابن عمّه في مكّة.. ولكن كيف يمكن الاعتذار.؟ وبم يعتذر.؟! وقلّب وجوه الرأي فلم يجد مناصاً من الحضور، فعقد العزم، وتوكّل على الله، وحمل أسرته بين سيّارته وسيّارة ابنه عليّ، ولم ينس أن يوصي ابنه بالانتباه إلى أخطاء الآخرين قبل أخطائه.. وحضروا العرس، وطال السهر حتّى لم يبق للفجر سوى ساعتين.. ولكن لابدّ من العودة إلى جدّة، فارتباطات أبي سالم كثيرة، ولا يستطيع التخلّص أو توكيل أحد ينوب عنه.. وفي الطريق كان يسير أمام سيّارة ولده، ويلحظه بالمرآة بين الحين والآخر، ولحظ أنّه يميل بسيّارته ذات اليمين وذات الشمال، فظنّ أوّل الأمر أنّ ولده يتصرّف بنوع من طيش الشباب، فتضايق منه، وقال في سرّه: ومتى كان عليّ بمثل هذا الخلق.؟! وفجأة جنحت السيّارة ذات الشمال، وتمادت في جنوحها، فصاح بأعلى صوته: الله أكبر ! الله أكبر ! حادث.. حادث.. وتوقّف بصورة فجائيّة، كاد بها من معه أن يرتطموا بنوافذ السيّارة وسقفها.. وهم لا يعلمون ما يجري خارجها.. ونزل يركض باتّجاه سيّارة ابنه.. كانت الدماء تنزف من رأسه وقد خرج نصف رأسه من الزجاج الأماميّ.. وطاش عقل أبي سالم، وهو يرى ولده بهذه الحالة، ولم يدر ماذا يعمل.؟! وكيف يتصرّف.؟! ووقفت السيّارات، وجاء الناس وحاولوا مساعدته.. ولكن حلّ الأجل.. ولم يعد ينفع شيء من العمل: { قُل: لَو كُنتُم في بُيُوتِكُم لَبَرَزَ الذينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ القَتلُ إلى مَضَاجِعِهِم.. () } آل عمران.

ولا تسل عن حزن والديه عليه كيف كان.؟! ثمّ محت الأيّام الأحزان من الوجدان، فأصبحت من خبر كان، وتلك سنّة الله في الحياة والأحياء..

50 * باحث عن الحور العين:

خلدون شابّ ناشئ في طاعة الله، في السنة الأولى من الجامعة، على درجة كبيرة من التقوى والاستقامة، لا تسنح له فسحة من الوقت إلاّ ملأها بعبادة الله وطاعته، نشيط في الدعوة إلى الله، بين رفاقه وأصدقائه، كما هو متفوّق في دراسته، لا يعرف إلاّ الجدّ والعمل، دمث الأخلاق، لا يعرف عبث الشباب ولا يعرفه..

صحبته في سفر الحجّ فكان أعجوبة في نكران نفسه، وخدمة إخوانه، وإيثارهم بالمحابّ وإيثار نفسه بالتعب..

كانت لديّ ابنة واحدة، في السنة الأولى من العمر، فكنت أمازحه أنّني أخبّئها له، فعليه أن يصبر ويصابر، فيقول لي: " لا حظّ لي في نساء الدنيا، والحور العين ينتظرنني.. من فكّر بالحور العين زهد بنساء الدنيا ".

خرج يدعو إلى الله مع فئة مؤمنة صالحة مرّة بعد مرّة، وكان يقول تواضعاً: أنا أخرج لتهذيب نفسي وخدمة إخواني، وفي إحدى المرّات قصدوا قرية كان بينها وبين قرية مجاورة خلاف ونزاع، فعندما رآهم من بعيد بعض رجال القرية أطلقوا عليهم النار بكثافة، فأصابت خلدون رصاصة بمقتل، فلم يبرح مكانه، ولم يصب أحد معه بشيء.. ونحسبه شهيداً، ولا نزكّي على الله أحداً.. ولعلّ الحور العين كنّ بانتظاره في تلك الدار..

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين