وفود الحجيج يأتون من كل فج عميق

الأستاذ: عبد الرحمن البنا

 منذ أن نادى أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس أيها الناس، إن ربكم بنى بيتاً وأوجب عليكم الحج إليه فأجيبوا ربكم، وكان يلتفت بوجهه يميناً وشمالاً، وشرقاً وغرباً، وقد خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى، وأسمع الله تعالى نداءه فأجابه كل من كتب له أن يحج من أصلاب الرجال وأرحام الأمهات، منذ ذلك العهد وقبله وبعده، وبيت الله الحرام يستقبل الآلاف يطوفون به ويسعون إليه رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.
 وحين يهلّ ميقات الحج بعد تطهير المسلمين بالصيام وقدوم شهر شوال وذي القعدة وذي الحجة، أو عشر منه ووفود المسلمين تتوالى من أقطار الدنيا في جوِّها أو بحرها أو أرضها محرمين تبيضّ بإحرامهم الدنيا، هاتفين يتلقى السلام هاتفهم ( لبيك اللهم لبيك).
 
 
هل عرفت الدنيا ما أوجب الله تعالى على أتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حين يعتزمون الحج؟ 
 أوجب عليهم أن يكونوا طيبين يقدمون المال الذي يحجون به طيباً حلالاً فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج الحاج حاجاً بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز ـ أي: الركاب ـ فنادى لبيك، ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك، ناداه مناد من السماء لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام ونفقتك حرام، وحجك مأزور غير مأجورـ رواه الطبراني في الأوسط ـ
 
 
والنية خالصة لوجه الله لا يقصد بالحج إلا وجهه الكريم، ولا يعتزم السير إلا إليه، وقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم  على رحل رث وقطيفة خلقة ثم دعا ربه فقال: (اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة).
 
 
واسترضاء الخلق، واستسماح أهل الحقوق، ورد الدَّيْن، وصلة الرحم، وبر الوالدين، والتطهر من كل رجس، والترفع عن كل عيب، والغض عن كل خنا:[الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ{البقرة:197}.
 
 
كم طهارة طلبها الإسلام من أتباعه حين يحجون ؟ طهارة القلب، وطهارة النفس، وطهارة الروح، وطهارة الحس، وطهارة الثوب، وطهارة الجسم، وطهارة الجوارح، حتى كاد الإسلام أن يحيل البشر الحجاج من أتباعه ملائكة على الأرض يمشون.
 فإذا استكملوا ذلك أحرموا بالحج، وقلموا الأظافر، وقصوا الشوارب، ونتفوا الإبط، وسرحوا اللحية وشعر الرأس، وتوضؤوا أو اغتسلوا وتطيبوا بالمسك، والطيب لا يبطل إحرامهم إذا خلعوه مع لبس الإحرام، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص ـ أي: بريق ـ الطيب في  مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.
 وروى البخاري ومسلم عنها أنها رضي الله عنها قالت: ( كنت أطيِّب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت) .
 وروى أحمد عنها رضي الله عنها قالت: (كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فننضح جباهنا بالمسك عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا).
 
 
ثم يخلعون ثيابهم فيخلعون معها الدنيا، يتجردون عن المخيط، فلا يرتدون إلا رداء يلف النصف الأعلى من البدن، وإزاراً يلف النصف الأسفل منه، الرؤوس عارية، والقلوب مبتهلة، والوجوه إلى الكعبة، يصلون ركعتين بنية سنة الإحرام يقرؤون بعد الفاتحة في الأولى سورة الكافرون، وفي الثانية سورة الإخلاص.
 ماذا بقي من الدنيا بعد ذلك؟ لقد ذلت وهانت، وصغرت وتضاءلت ، بل انعدمت وانمحت، ها هم أولاء بعد الإحرام لا يحلقون شعراً، ولا يقصون ظفراً ، ولا يصيدون صيداً، لا يعقدون، نكاحاً، ويحرم على الزوج أن يقرب زوجته أو يقبِّلها أو يلمسها بشهوة، أو يخاطبها بكلام يتعلق بالوطء ويحرم النظر إلى الأجنبية، فقد أخرج البخاري بسنده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه، قال: نعم، و ذلك في حجة الوداع).
 أين الدنيا اللاهية من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الساجدة العابدة؟ أين الذين لا يفيقون من خمر، ولا يقلعون عن ظلم، ولايبيتون على طهر، أين هم من العيون الساهرة، والقلوب الطاهرة والنفوس الخاشعة، والظهور الراكعة، والجباة الساجدة، يتعاملون مع قوى الكون غير المنظورة، وقد تبددت أمام صفائهم الحجب وهتكت أمام شفافيتهم الأستار، فرأوا الأشجار ساجدة والنجوم موحدة:[الشَّمْسُ وَالقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ{الرَّحمن: 5-6}.
 وينطلقون ملبين، لقد جاءوا، إنهم هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، بثيابهم البيض، وخطوهم الوئيد، وهتافهم بالتوحيد، الزي واحد، وإن اختلفت الجهات، والقصد واحد، وإن تباينت اللغات، والكل سواسية وإن اختلفت الألوان، قرَّبهم الإسلام وإن تناءت بهم البلدان.
 العالم المتصارع يجب أن يتلقى درسه هنا، والدنيا المتنازعة ينتهي نزاعها لو وقفت بالمحصب من منى، ستذهل وتغسل أدرانها إذا استمعت إلى هذا النداء، ينبعث من قلوب المسلمين وحناجرهم (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)
 هذه مكة، بعد بالغ... شوق وطول سُرى... وتلك معالمها...شعابها ودروبها... مسالكها ووديانها...جبالها العلائم وجبالها الأعلام، فأما العلائم فخندمة وأبو قبيس وأجياد، وأما الأعلام فالصفا والمروة:[إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ{البقرة:158}.
 هذه مكة فيها البيت تهوى إليه الأفئدة، الكعبة، تتجه إليها القلوب، وفي غار حراء هنا تبتل محمد صلى الله عليه وسلم، وهبط جبريل، ونزل القرآن الكريم.
 هنا جبال دوّت بأعلى قممها دعوة محمد صلى الله عليه وسلم فاستجابت ولانت وتحركت وحنّت وذابت.
 وهنا دار آوى إليها محمد صلى الله عليه وسلم أول دعوته مستخفياً، ومن حوله نفوس مؤمنة صدقت وفهمت، و تذوقت، وتشكلت واستمعت:[إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا{المزمل:5}.
 فامتثلت، وسلمت، وتآخت، وأخلصت، واندفعت، فأشاعت النور، وقطعت الأبعاد، وآمن الناس إلا قليلاً.
  هذه مكة، لا يدخلها إلا مؤمن، ولا يغشاها إلا طاهر، فيستحب لدخولها الاغتسال، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يغتسل لدخول مكة، ويستحب المبيت بذي طوى من جهة الزاهر، فقد بات رسول الله صلى الله عليه وسلم  بها قال نافع: وكان ابن عمر رضي الله عنهما يفعله، ويستحب أن يدخلها من الثنية، ثنية كداء، فقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم من جهة المعلاة.
 وهذا البيت الحرام، آلاف مؤلفة يدخلون من باب السلام، وحين تقع أنظارهم على البيت، ترتفع الأيدي داعية: (اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة وزد من شرّفه وكرّمه ممّن حجّه أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً، اللهم أنت السلام ومنك السلام حيِّنا ربّنا بالسلام).
 هذه مواكب السلام تصل سيرها بموكب السلام الذي قاده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية بعام في عمرة القضاء ،حيث أخليت مكة يطوف المسلمون بالبيت كشرط من شروط الحديبية وخرجت قريش إلى شعاب الجبال تنظر منظراً عجباً.
 هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألفين من أصحابه يطوف بالبيت على ناقته القصواء يأخذ بزمامها عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يرتجز:
 خلوا بني الكفار عن سبيله=خلوا فكل الخير في رسوله
 يا رب إني مؤمن بقيله=أعرف حق الله في قبوله
 فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (إيها يا ابن رواحه قل: لا إله الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده).
 هذه مواكب السلام، ولابد للسلام من قوة تحرسه، فقد جهز النبي صلى الله عليه وسلم مائة فارس ،جعل على رأسهم محمد بن مسلمة، وبعثهم طليعة له على ألا يتخطوا حرم مكة، وحين بدأ الطواف اضطبع صلى الله عليه وسلم بردائه، وأخرج عضده اليمنى ثم قال: (اللهم ارحم امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة). وكذلك تتحرك مواكبنا للسلام فتحرسها قوة يقظة وترعاها عين الله التي لا تنام.
 وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
 المصدر: مجلة الوعي الإسلامي ذو الحجة 1403 عدد 228.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين