وظنَّ أنه الفراق

لا يزال ذلك الحدثُ الغريبُ محفورًا في ذاكرة الطفل الذي في داخلي .. رجل صحيح مُعافى يخبر أهل بيته أنه سيموت بعد قليل، ويطلب منهم أن يضعوا له فراشًا باتجاه القبلة ثم يودِّعهم ويستلقى ليموت، فيموت بالفعل !!

ذاع صيتُ الرجل حتى قال الناس: يا تُرى ما الذي بينه وبين الله حتى يُعلمه بوقت موته، لكنَّ الرجل لم يكن صالحًا ولم يكن من المصلين أصلا!!

ولما تكرَّر الحدثُ وتواترَ وشاهدناه في القريب والبعيد، وتبيَّن أنَّ استشعار قرب الموت لا فرق فيه بين المحسن والمسيء، بل يحصل حتى مع أهل الكفر والعناد، حينئذٍ كان لزامًا الرجوع إلى نبع العلم الزلال، والاسترشاد بدلالات الوحي إلى ما تطمئن إليه النفس، وتتروى به الروح.

يُمكننا تلخيص فكرة الموت بأنها خروج الروح من الجسد، وانفصالها عنه بعد التحام وامتزاج دام طوالَ العمر، حيث ابتدأت العلاقة في طور الجنين قبل الإدراك حينما جاء الملك بالروح من عالَم الذرِّ ونفخها في تلك المضغة اللحمية في رحم الأم، فالإنسان الحيُّ لا يعي حالة الروح المجرَّدة عن الجسد ولا يذكرها البتة.

إنَّ اللحظة الأولى في النزع تبدأ بحلحلةٍ تدريجيةٍ لذلك الرباط الوثيق بين الروح والجسد، فيشعر المرءُ حينئذٍ بشعورٍ لا يشبهه أيُّ شعورٍ آخر من قبل، لقد جرَّب أنواعًا كثيرةً من الآلام في رحلة حياته الطويلة، وكان فيما مضى يستطيع أن يحدِّد موضع الألم من جسده، لكنَّ الألم هذه المرة مختلف، لا من حيث شدَّتُه فحسب ولكن من حيث نوعُه وكُنهه، فهو بنكهةٍ غير مسبوقة يُمكن تذوقُّها بوضوح .. (كلُّ نفس ذائقة الموت) فالموت له مذاق خاص يبدأ يسري في البدن لحظةَ فك الارتباط، يُدرك معها الحيُّ يقينًا أنه سيموت، ولكن لا يجدُ وعاءٌ لغويًا يُمكنه أن يصف به ذلك الشعور الغريب الذي يعرفه الأموات فقط، إنه مذاق جديد فحسب .. كما لو أنك طَعِمت طعامًا من عالمٍ آخر لا يخضع لأنواع المذاقات الحصرية الأربعة الموجودة في الأطعمة، فكيف يمكنك وصفُه للآخرين؟!!

وفي هداية القرآن شفاء لما في الصدور والعقول .. (حتى إذا بلغت التراقي * وقيل من راق * وظنَّ أنه الفراق)

كلمة ظنَّ: من ألفاظ الأضداد التي تفيد المعنى وضده، فهي تفيد معنى التردد أحيانًا، وتفيد معنى اليقين غالبًا، وهي في هذا الموضع تفيد التيقن والجزم بلا خلاف.

أي أنَّ العبد في حال النزع، وانشغال المحبين ببذل الممكن لإسعافه بالطب والرقية، يتيقَّن أنه الفراق!!

وما الفراق؟ إنه فراقُ روحه لجسده، ولازمُه مفارقةُ الحياة إلى الموت، ومفارقة الدنيا إلى الآخرة، ومفارقة الأحياء إلى الأموات.

إنَّ كلمة "النزع" تفيد معنى الخلع، فالمحتضر يقوم بخلع قميص البدن حتى تبقى الروح عاريةً بلا بدن، وهناك قُمُصٌ أخرى سوف يخرج عنها، منها قانون الزمان والمكان "الزمكان".

وكلما تخفَّف من شيء من أثقال البدن في عالم الشهادة انكشف عنه من غطاء عالَم الغيب بحسبه، فيبدأ بمعاينة الملائكة ثم ملك الموت، ومعاينة مقعده في الجنة أو النار، حتى ينكشف عنه غطاؤه كله بخروجه كله.

كلُّ محتضر يمرُّ بهذه الحالة، ويوقن أنه ميتٌ لا محالة منذ الوهلة الأولى للنزع، ولكن قد يضيقُ بالمحتضِر الوقتُ فلا يقدر على النطق، وقد يتسع فيكون قادرًا على الكلام لكنه عاجز عن الوصف، فيُبادر الموفَّقون إلى ذكر الله والثناء عليه واسترحامه والنطق بالشهادة لتكون آخرَ كلامهم من الدنيا، وأما المخذولون فيقولون لربهم بحسرة وندامة: ارجعنا نعمل صالحًا "إنا موقنون" ولاتَ ساعةَ مندَم.

وبعد تذوُّق الأموات للموت وتعرفِّهم على حقيقته لم يعُد يخفى عليهم حاله بعد اليوم ولو ارتدى كلَّ قميصٍ وتصوَّر بأيِّ صورة .. فيؤتى به يومَ القيامة وقد تجسَّد بصورة كبشٍ أملح، فيُسأل عنه الجميع: هل تعرفون هذا؟

فيجيبون بلا تلعثُم: ومَن منا لا يعرفه؟ إنه الموت.

وهذه المرة سيُذبَح الموتُ إيذانًا برحلة الخلود في السعادة الأبدية أو الشقاوة الأبدية، حينها سيكون تعلُّق الأرواح بالأبدان تعلقًا خاصًّا لا يقبل الانفكاك إلا أن يشاء الله.

اللهم اجعل خير أيامنا يوم لقائك، وأسعد ساعتنا ساعةَ نظنُّ أنه الفراق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين