أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.
فعنوان حديثي إليك اليوم: وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما
كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم صبياً صغيراً، وكان فَطِناً ذكيا، وكان عمره يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشرة سنة، وهو ابن عم النبي ومِنْ أحبِّ الناس إليه، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم فَقِّهُهُ في الدين وعلِّمْهُ التأويل. ومن شدة محبة الرسول له كان يردِفُهُ خلفه في بعض الأحيان إذا ركب، وكان يعلمه ويفقهه.
قال ابن عباس: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال لي: إني أعلمك كلمات: احْفَظِ الله يحفظَك، احفظ الله تجده تُجاهَك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَتْ الأقلام وجَفَتْ الصحف. رواه الترمذي في سننه، وقال: حديث حسن صحيح.
لقد تضمنت هذه الوصية النبوية مقاصد جليلة، وتوجيهات عظيمة، أولها قوله صلى الله عليه وسلم للغلام ابن عباس: "احفظ الله"، وهذا التعبير النبوي الكريم قد حوى من الجزالةِ والبلاغةِ الذروةَ، فإنَّ الله هو الذي يحفظ العباد ويرعاهم، فكيف يقول أفصح البشر لابن عمه ابن عباس "احفظ الله"؟ والجواب أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعني ما يقول: "احفظ الله": احفظ حدوده وحقوقه، وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال والتنفيذ، وعند نواهيه بالاجتناب والإمساك عنها، وعند حدوده بعدم التجاوز لها.
وجزاء حفظ هذه المذكورات عند الله تعالى: عظيم جسيم، وهو أن الله يحفظ المُتَّصِفَ بها، وذلك صريح في قوله صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله يحفظك"، فإن الجزاء من جنس ذا العمل كما قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ وقال سبحانه: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ وقال أيضاً: ﴿ِإن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ﴾. ومَنْ حَفِظَهُ الله تعالى لا يضره كيد كائد، ولا حسد حاسد.
وحِفْظُ الله تعالى لعبده يتضمن حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله حتى حفظه في ذريته، كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحا﴾، أي أنهما حُفِظا بصلاح أبيهما. قال سعيد بن المُسَيَّب لابنه: لأَزيدنَّ في صلاتي من أجلك، رجاءَ أن أُحفَظَ فيك. ثم تلا هذه الآية. كما يتضمنُ حفظُ الله تعالى لعبده: أن يحفظ عليه دينه وإيمانه وعقيدته، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه على الإيمان، وذلك هو الفوز العظيم.
وقد كرر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الوصية لابن عباس بقوله: "احفظ الله تجده تجاهك"، يعني أنَّ مَنْ حَفِظَ حدودَ الله وراعى حقوقه وَجَدَ الله معه في كل أحواله حيث توجَّه، يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه، ويسدده ويؤيده: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون﴾، وقد كتب بعض السلف إلى أخ له: أما بعد، فإن كان الله معك فمن تخاف؟ وإنْ كان عليك فمن ترجو؟
ثم أكد الرسول الكريم على ابن عباس هذا المعنى بأسلوب آخر فقال له: تعرَّف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة. يعني أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه فقد تعرَّف بذلك إلى الله تعالى، وصار بينه وبين ربه سبحانه معرفة خاصة، فيعرفه ربه في الشدة، ويرعاه في حال الضر والبلاء والكيد والإيذاء، فيجيبه إذا دعاه، وينجيه إذا أراد الناس به السوء، قيل لمعروف الكَرْخي: ما الذي هَيَّجَكَ إلى الانقطاع والعبادة وذِكرِ الموت والبرزخ والجنة والنار؟ فقال معروف: إن مَلِكَاً هذا كلُّه بيده، إن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميعَ هذا.
ثم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس، إذا نزلت به فاقة، أو عرضت له حاجة بأن يرجع في شأن إزالتها وصرفها إلى الله وحده، لأنه هو الخالق وحده وهو القادر على ذلك وحده، فقال لابن عباس: إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. وفي النهي عن مسألة المخلوقين أحاديث كثيرة، وقد بايع النبيُّ جماعةً من أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً، منهم أبو بكر الصديق وأبو ذر وثَوْبَان رضي الله عنهم، فكان أحدهم يسقط منه السوط أو خِطام ناقته، فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه، ذلك لأن في السؤال إظهار الذل من السائل، وإظهار الحاجة والافتقار إلى المسؤول، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده، لأنه حقيقة العبادة.
وأما الاستعانة بالله عز وجل وحده دون غيره من الخلق، فلأنَّ العبدَ عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره، ولا معين له على مصائب دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول، وقد كتب الحسن البصري إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز: لا تستَعِنْ بغير الله فيكِلَكَ اللهُ إليه.
ثم ختم الرسول وصيته لابن عباس بقوله: واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعتْ الأقلام وجَفَتْ الصحف. يعني أن ما يصيب العبد في دنياه مما يَسُرُّهُ أو يكرهه كله مقدر له أو عليه من قبل، كما جاء في القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾.
فهذه وصية رسول الله لابن عمه ابن عباس، ينبغي أن يُنَشَّأَ عليها الشباب والناشئة حتى تثبت فيهم أخلاق الإسلام: العزة والكرامة والرجوع في كل حال إلى الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول