وصايا نبوية

هذه خطبة قديمة، كنت حضَّرْتها وكتبتها وأمثالها في المسجد الحرام، عندما كنت خطيباً في جامع النور بأحد أحياء جدة القديمة، وبقيت ضمن أوراقي الكثيرة التي تكرَّم بإحيائها وتذكيري بها الأخ طارق عبد الحميد.وقد راجعتها وأضفت عليها إضافات كثيرة، نفع الله بما كتبت وخطبت، وتقبل منا بأحسن القبول.

عن أبي ذر جُنْدب بن جَنَادة، وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (اتَّق الله حيثما كنتَ، وأتِّبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسن) رواه الترمذي وقال : حديث حسن، وفي بعض النسخ : حسن صحيح.

ما أجمل هذه العطيَّة التي يتحفنا بها هذا الصحابيان الجليلان، إنها حديث سمعاه من مربِّيهما وحبيبهما محمد صلى الله عليه وسلم ليكون إرشاداً وتوجيهاً، ووصيةً وموعظةً للأمة.

الوصية الأولى :

أعظم ما يوجِّهنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية الخالدة الجامعة لحقوق الله تعالى، والحافظة لحقوق عباده... تقوى الله عزَّ وجل.

التقوى سبيل النجاة:

 والتقوى في اللغة: اتخاذ وقاية وحاجز يمنعك ويحفظك مما تخاف منه وتحذره، وتقوى الله عزَّ وجل : أن يجعل العبد بينه وبين ما يخشاه من عقابه وقايةً تقيه وتحفظه منه، ويكون ذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.

فالتقوى جماع كل خير، والوقاية من كل شر بها استحق المؤمنون التأييد والمعونة من الله تعالى :[إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ] {النحل:128}.

ووعدهم عليها الرزق الحسن، والخلاص من الشدائد : [وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ] {الطَّلاق:3}. 

وبها حفظهم من كيد الأعداء : [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] {آل عمران:120}.

وجعل للمتقين على نفسه أن يرحمهم :[ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ] {الأعراف:156}. وأنزلهم في الآخرة بجواره: [إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ(54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(55) ]. {القمر}.  

ولقد كثرت الآيات والأحاديث في فضل التقوى، وعظيم ثمراتها، ولا غرابة فالتقوى سبيل المؤمنين، وخُلق الأنبياء والمرسلين، ووصيَّة الله لعباده في الأولين والآخرين، فمن التزمها فاز وربح، ومن أعرض عنها هلك وخسر: [وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا] {النساء:131}.

حقيقة التقوى:

التقوى كلمة جامعة مانعة، تشمل كل ما جاء به الإسلام من عقيدة وعبادة، ومعاملة وخلق، قال تعالى :[لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ] {البقرة:177}.

فالتقوى بهذا المعنى ليست كلمة تقال، أو دعوى تُدَّعى، بل هي : عمل وطاعة لله عزَّ وجل، وتركٌ لمعصية الله تبارك وتعالى، ولقد فسَّر السلف الصالح التقوى بقوله : (أن يطاع الله فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر)، ولقد عملوا بهذا المعنى والتزموه، تنفيذاً لأمر الله تعالى، وتلبيةً لندائه سبحانه :[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] {آل عمران:102}.

من كمال التقوى:

البعد عن الشبهات وما التبس بالحرام من أمور : (فمن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) البخاري ومسلم.

ويدخل في هذا المعنى: أن يتنزَّه عن كثير من المباحات التي يخشى منها أن توقع في المحرمات : روى الترمذي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس).

قال الحسن البصري : ما زالت التقوى بالمتَّقين، حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام.

الوصية الثانية :التوبة من الذنب:

قد يغلب على الإنسان الغفلة والنسيان، وقد تغريه نفسه أو يُوسوس له شيطانه، فيقع في المعصية ويرتكب الذنب، ومن التقوى: أن يسارع إلى التوبة، ويستغفر الله عزَّ وجل، قال تعالى في وصف المتقين : [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] {آل عمران:135}.

وقال : [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ] {الأعراف:201}.

ثم يبادر المسلم التقيُّ، بعد التوبة والاستغفار، والتذكُّر والتبصُّر، إلى فعل الخيرات والإكثار من الطاعات، والأعمال الصالحة لتكفِّر عنه ذنبه، وتمحو ما اقترفه من إثم :[إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا] {الفرقان:70}.[إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] {هود:114}.

نور الطاعة يبدد ظلمة المعصية:

إن القيام بالأعمال الصالحة من صلاة وصيام وحج وزكاة وجهاد وذكر، وغيرها من أعمال البر والخير، تمحو ما يفرط من المسلم من زلَّة، وما يقع منه من مخالفة، ثبت في ذلك أحاديث صحيحة كثيرة.

منها قوله صلى الله عليه وسلم : (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم : (من حجَّ هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) رواه البخاري.

وقوله صلى الله عليه وسلم : (ألا أدُلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : إسباغ الوضوء على المكاره، وكَثْرةُ الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة) رواه مسلم.

التوبة شرط لتكفير الكبائر:

الحسنات تكفِّر الذنوب الصغيرة، أما الكبائر : وهي كل ذنب توعَّد الله عليه بالعقاب الشديد، كعقوق الوالدين، وقتل النفس، وأكل الربا، وشرب الخمر فلابد فيها من التوبة، قال تعالى : [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى] {طه:82}.

فإذا كان الذنب متعلقاً بحقِّ العباد ـ كالسرقة والغضب ونحوها ـ فلا بد فيها من أداء الحقوق لأهلها، أو طلب مسامحتهم، فإذا حَصَل ذلك رجي من الله تعالى القبول ومَحْو الذنوب، وإذا لم يحصل الوفاء أو الإبراء كانت المقاصة يوم القيامة.

الوصية الثالثة : وخالق الناس بخلق حسن:

يوجِّهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الوصيَّة، إلى أمر فيه صلاح حياة الفرد والمجتمع، ألا وهو معاملة الناس بالخُلُق الحسن الجميل.

منزلة الأخلاق:

ولما للأخلاق من قيمة في حياة الأمم، كانت لها منزلة رفيعة في الإسلام، وأولاها عناية فائقة، وقد كثرت الآيات والأحاديث في الحثِّ على الأخذ بمكارم الأخلاق، وبيان فضل الملتزم لها والمتصف بها.

فمن الآيات : قوله تعالى :[خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ] {الأعراف:199}.

وقوله تعالى :[ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] {فصِّلت:34}.

ومن الأحاديث : ما رواه ابن حبان في صحيحه قوله صلى الله عليه وسلم : (ألا أخبركم بأحبكم إلى الله، وأقربكم منه مجلساً يوم القيامة ؟ قالوا : بلى، قال : أحسنكم خلقاً ).

وروى أحمد وأبو داود قوله صلى الله عليه وسلم : (خياركم أحاسنكم خلقاً).

وقوله : (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ).

وروى البخاري في الأدب، والحاكم والبيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

اكتساب الخلق الحسن:

يمكن للإنسان أن يكتسب الأخلاق الحسنة الرفيعة، ويتحقَّق اكتساب الخلق الحسن بأمور:

أعلاها: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في حُسْن خُلقه، ولقد أمرنا الله عزَّ وجل بذلك :[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] {الأحزاب:21}. وهو صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة، والمثال الرفيع في الأخلاق حيث وصفه الله تعالى بقوله :[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] {القلم:4}.

صحبة الأتقياء والصلحاء:

ومن وسائل اكتساب الأخلاق الحميدة : صحبة الأتقياء والعلماء، وذوي الأخلاق الفاضلة، ومجانبة الأشرار وذوي الفعال الردئية، قال تعالى :[وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا] {الكهف:28}.أي : مجاوزاً للحد.

من مكارم الأخلاق:

صلة الرحم، والعفو والصفح، والعطاء رغم المنع.

 روى الحاكم عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عقبة، ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة ؟ تَصِل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك ) وفي رواية عند أحمد (وتصفح عمن شتمك).

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

صباح الجمعة 7/ربيع الثاني/1403 مكة المكرمة

باختصار وتصرف من كتاب :(الوافي في شرح الأربعين النووية).

نشرت 2010 وأعيد تنسيقها ونشرها 16/12/2020

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين