وزيرة صدقٍ

رضي الله عنها: لقد كانت  تسمى وزيرة صدق.

وكانت تسمى: سيدة نساء قريش.

قال المؤرخ الكبير ابن اسحق عن السيدة خديجة رضي الله عنها: وكانت خديجة و زيرة صدق.

ويقول السهيلي صاحب الروض الأنف: وخديجة بنت خوليد تسمى: الطاهرة في الجاهلية والإسلام.

وفي سير التيمي: أنها كانت تسمى سيدة نساء قريش.

وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذَكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها واستغفار لها، فذكرها يوماً فحملتني الغيرة فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن! قالت: فرأيته غضب غضباً، فأسقط في يدي وقلت في نفسي: اللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيت قال: كيف قلت؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس وآوتني إذ رفضني الناس، ورزقت منها الولد وحرمته مني، قالت: فغدا وراح عني شهراً).

ولسنا هنا بصدد التأريخ لحياة وزيرة الصدق الطاهرة سيدة نساء قريش، وإنما نريد أن نرسم بعض لوحات من حياتها لنرى منها الدرجة السامية التي كانت عليها روية وعقلاً، وفطرة طاهرة وذكاء وفطنة.

وصلتها بالرسول صلى الله عليه وسلم:  تبدأ في صورة وثيقة بعمله لها في مالها متاجراً به، ولقد عرفته، بسبب ذلك، بصورة طبيعية، عن قرب، ولاحظت متعمدة وغير متعمدة الكثير من الخلال الجميلة التي تحلى بها، وحدثها غير واحد عن وكيلها في التجارة وحدثها ميسرة حديثاً مثيراً يبعث في النفس العجب والإعجاب.

وبدأت فكرة الزواج بمحمد صلى الله عليه وسلم تتبلور في نفس الطاهرة شيئاً فشيئاً، ولكنها ما كانت تتعجل الأمور، وها هي ذي تذهب إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وتذكر له ما لاحظته من صفات محمد وأحواله و تذكر له ما قاله ميسرة مما رآه ومما سمعه، فيقول ورقة: (لئن كان هذا حقاً يا خديجة، إن محمداً لنبي هذه الأمة، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر، هذا زمانه ) اهـ.

وعادت خديجة من عند ابن عمها وقد أصبحت فكرة الزواج بمحمد أكثر تبلوراً وأكثر جاذبية وما كانت الجاذبية في أساسها أو في أهدافها تتمثل في الجانب الجسماني، وإن كان محمد من أحسن الناس خلقاً، وما كانت تتمثل في جانب الثروة فما كان محمد صاحب ثراء عريض، وإن كان عنده من الذكاء ما ي مكنه، ولو أراد أن يكون من أصحاب الثروات.

وإنما كان منطلق الجاذبية هذه السمات الخلقية الكريمة، وهذه الروحانية البادية وهذه الإشراقات التي تتلألا ثم تخفت ثم تعود إلى لألائها من جديد.

وذات يوم بدأت الطاهرة في الأخذ في المقدمات.

ولم تكن المقدمات مقدمة واحدة: أما أولاها فيما نرى فهو ما رواه الفاكهي في كتاب مكة قال: عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان عند أبي طالب فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة فأذن له.

وبعث بعده جارية له يقال لها نبعة فقال: انظري ما تقوله له خديجة، قالت نبعة: فرأيت عجباً ما هو إلا أن سمعت به خديجة فخرجت إلى الباب.

وكان مما قالت: أرجو أن تكون أنت النبي الذي ستبعث فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي وادع الإله الذي يبعثك لي، قالت: فقال لها: والله لئن كنت أنا هو قد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبداً، وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبداً، وقد روى القصة الفاكهي ورواها الإمام ابن حجر ولم يضعفها.

وما من شك في أن هدف الطاهرة هدف نبيل ولقد لاحظ محمد كل ذلك حين قال لها: (فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله) أي أنها لم تصنع هذا إلا من أجل الإله الحق الذي تعتقد أن محمداً سيكون رسوله.

وأما المقدمة الثانية: فهي ما حدثت به نفيسة بنت منبة قالت: كانت خديجة بنت خوليد امرأة حازمة شريفة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسباً وأعظمهم شرفاً وأكثرهم مالاً وكل قومها كان حريصاً على الزواج منها، لو قدر على ذلك ولقد طلبوها، وبذلوا لها الأموال، فأرسلتني دسيساً إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع في عيرها من الشام.

فقلت: يا محمد ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به؟ قلت: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى الجمال والمال، و الشرف، والكفاءة ألا تجيب؟

قال فمن هي ؟ قلت: خديجة. قال: وكيف لي بذلك، قالت: قلت علي. قال فأنا أفعل. فذهبت فأخبرتها. وأصبحت المسألة واضحة في ذهن محمد صلى الله عليه وسلم.

أما المقدمة الثالثة: فهي المقدمة المباشرة يقول السهيلي: وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من كرامته، فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها به بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: فيما يزعمون. يا بن عمر، إني قد رغبت فيك لقرابتك، وسطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهن شرفاً وأكثرهن مالاً، كل قومها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليه وتم الاتفاق على كل شيء.

وجاء آل عبد المطلب: وعلى رأسهم حمزة رضي الله عنه وأبو طالب إلى بيت خديجة وكان في استقبالهم عم خديجة عمرو ابن أسد، وابن عمها ورقة بن نوفل. فقال أبو طالب خطيباً فكان مما قال: أما بعد: فإن محمداً ممن لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً، و إن كان في المال قلة، فإنما المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خوليد رغبة ولها فيه مثل ذلك، ورضي عمرو وقال: هو الفحل لا يقدع أنفه، ورضي ورقة، وتم الزواج.

هذه هي اللوحة الأولى: وهي دليل واضح على الروية والنضج والذكاء وحسن التأتي للأمور وحسن الاختيار.

واللوحة الثانية جميلة حقاً، رائعة حقاً وإنه ليتمثل فيها وضوح، العبقرية والنضج النادر.

لقد سارت الحياة رخاء في عش الزوجة: لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم بالنسبة لخديجة رضي الله عنها الأخ والإبن والزوج وكانت بالنسبة له الأخت والابنة والزوجة، لقد كان بينهما حنان وعطف وحب، وكان بينها من قبل ذلك ومن بعده تقدير متبادل.

وذات يوم: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خوليد رضي الله عنها فقال: زملوني زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع ـ رواه البخاري ـ.

لم يكن هذا شأن محمد صلى الله عليه وسلم فيما مضى ولقد لاحظت وزيرة الصدق تغيراً محسوساً في شأن محمد صلى الله عليه وسلم فجلست تنتظر أن يحدثها الحديث، جلست يسرح بها الخيال ويملؤها الإشفاق، وانتظرت وكان الانتظار طويلاً، وفي النهاية: ها هو ذا يتحرك ويأتي نحو خديجة فيحدثها بما يذهلها ويسعدها من خبر الوحي، والملك، ومجيء الحق وهو في غار حراء، ثم قال لها: (لقد خشيت على نفسي) وتسارع الوزيرة دون فتور ودون تباطؤ أو تلكؤ فتقول بملئ فيها، مقسمة على ما تقول: (كلا والله ما يخزيك الله أبداً) لماذا ؟لقد عللت ذلك قائلة: إنك لتصل الرحم وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف وتعين على نوائب الحق.

وهذا قانون سنة رب العزة وأعلنته الوزيرة، إنه قانون له مقدماته وله نتائجه، أما المقدمات فهي كلها تتبلور في كلمة: الرحمة. أما النتائج فإنها تتبلور في عدم الخزي.

وكان هذا أول قانون تعلنه الوزيرة بعد الوحي ويؤيده الإسلام ويؤكده ويبينه من زوايا متعددة: الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، لا تنزع الرحمة إلا من قلب شقي، إلى غير ذلك من المبادئ الإسلامية التي تتعلق بالرحمة. ونشطت خديجة نشاطاً عظيماً.

لقد دخل في هذه الحياة الهادئة الوديعة عنصر جديد: مفاجئ مذهل، سعيد، عذب، وغمر خديجة شعور قوي بالمسؤولية الملقاة على عاتقها وكانت رضوان الله عليها في المستوى الجدير بهذه المسؤولية وكان أول شيء في نظرها هو أن تصبح صورة ما حدث واضحة في ذهنها وفي ذهن زوجها: واضحة أسباباً وواضحة غاية وهدفاً، وأرادت أن تنطلق لتسعد بالحديث في ه ذا مع من يعرفون هذه الأمور في بصيرة وفي استنارة وقبل أن تنطلق اتجهت إلى زوجه في حنان وأخذت تمسح عن وجهه وتقول: أبشر فوالله لقد كنت أعلم أن الله لن يفعل بك إلا خيراً، وأشهد أنك  نبي هذه الأمة الذي تنتظره اليهود، قد أخبرني به ناصح غلامي وبحيري الراهب، وأمرني أن أتزوجك منذ أكثر من عشرين سنة، فلم تزل برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طعم وشرب وضحك.

فلما ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت رضي الله عنها فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت من مكانها، فأتت غلاماً لعتبة ابن ربيعة ابن عبد شمس، نصرانياً من أهل نينوى يقال له عداس فقالت له: يا عداس أذكرك بالله إلا ما أخبرتني: هل عندك علم من جبريل! فقال: قدوس قدوس ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل الأوثان.

فقالت أخبرني بعلمك فيه. قال: فإنه أمين الله بينه و بين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام ثم ركبت إلى الراهب وكان قريباً من مكة فلما دنت منه وعرفها قال مالك يا سيدة نساء قريش؟ فقالت: أقبلت إليك لتخبرني عن جبريل فقال: سبحان الله ربنا القدوس ما بال جبريل يذكر في هذه البلاد التي يعبد أهلها الأوثان؟ جبريل أمين الله ورسوله إلى أنبيائه ورسوله وهو صاحب موسى وعيسى. فعرفت  كرامة الله لمحمد صلى الله عليه وسلم.

وكانت خاتمة المطاف أن أتت ورقة بن نوفل فسألته عن جبريل، فقال لها مثل ذلك ثم سألها، ما الخبر؟ فأحلفته أن يكتم ما تقول له، فحلف لها فقالت له: إن ابن عبد الله ذكر لي، وهو صادق أحلف بالله ما كذب ولا كذب، أنه نزل عليه جبريل بحراء وأنه أخبره أنه نبي هذه الأمة وأقرأه آيات أرسل بها.

قال: فذعر ورقة لذلك، وقال: لئن كان جبريل قد استقرت قدماه على الأرض لقد نزل على خير أهل الأرض، وما نزل إلا على نبي، وهو صاحب الأنبياء والرسل يرسله الله إليهم، وقد أفدتك عنه فأرسلي إلى ابن عبد الله أسأله و أسمع من قوله وأحدثه، فإني أخاف أن يكون غير جبريل، فإن بعض الشياطين يتشبه به ليضل به بعض بني آدم، ويفسدهم، حتى يصير الرجل بعد العقل الرضى مدلهاً مجنوناً.

فقامت من عنده وهي واثقة بالله أن لا يفعل بصاحبها إلا خيراً... وانطلقت خديجة رضي الله عنها بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى ورقة فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك!.

فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أومخرجي هم! قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.

وتنفست خديجة ملئ رئتيها ونظرت إلى محمد نظرة فيها ما لا يوصف من المعاني ودخل في صلتها به عنصر جديد: إنها زوجة رسول يوحى إليه وكما حملتها سعادة التي يحب السعيد نشرها وإذاعتها والعمل على أن يحظى بمثلها أو بنصيب منها الآخرين على أن تطوف وأن تتحدث إلى هذا وذاك فقد حملتها على أن تجري التجاري على جبريل نفسه، لقد أحبت السيدة الزكية أن تضع جبريل عليه السلام موضع الاختبار والملاحظة وأن تجري عليه بعض التجارب لتتبين أمره في وضوح أوضح وفي تأكيد آكد ما كان يتأتى أن يدور ذلك إلا بذهن خديجة مظهراً لفطنتها ونباهتها يقول ابن خلدون معتمداً على الأحاديث الصحيحة: وانظر لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: خديجة رضي الله عنها بحال الوحي أول ما فاجأته وأرادت اختباره.

فقالت: اجعلني بينك وبين ثوبك، فلما فعل ذلك ذهب عنه، فقالت: إنه ملك وليس بشيطان، ومعناه أنه لا يقرب النساء.

وروى البيهقي هذه القصة في شيء من التفصيل: وذلك أن خديجة رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما بينه مما أكرمه الله به من نبوته: يا ابن عم تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ فقال: نعم، فقالت إذا جاءك فأخبرني. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها إذ جاءه جبريل فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا خديجة، هذا جبريل، فقالت أتراه الآن ؟ قال: نعم، قالت فاجلس إلى شقي الأيمن، فتحول فجلس، فالت أتراه الآن ؟ قال نعم: قالت فتحول فاجلس في حجري، فتحول فجلس في حجرها، فقالت: هل تراه الآن ! قال نعم: فحسرت رأسها فشالت خمارها ورسول الله جالس في حجرها فقالت: هل تراه الآن؟ قال: لا. قالت: ما هذا بشيطان إن هذا: الملك يا ابن عم فاثبت وأبشر ثم آمنت بهه وشهدت أن ما جاء به هو الحق، ولقد آمنت به منذ اللحظة الأولى لحديثه معها عن الوحي، قال ابن إسحاق: فحدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث فقال: قد سمعت  أمي فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة إلا أني سمعتها تقول: أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها فذهب عند ذلك جبريل عليه السلام.

قال البيهقي وهذا شيء كان من خديجة تصنعه تستثبت به الأمر احتياطاً لدينها  وتصديقاً.

ويقول ابن خلدون أيضاً: وكذلك سألته عن أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها، فقال: البياض والخضرة، فقالت: إنه ملك، يعني أن البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة، والسواد من ألوان الشر والشياطين وأمثال ذلك.

الطاهرة التي يصفها الذهبي فيقول: (وهي ممن كمل من النساء كانت عاقلة جليلة، دينة مصونة كريمة من أهل الجنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يثني عليها ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين ويبالغ في تعظيمها.

لقد كانت حقاً وزيرة صدق.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة الأزهر السنة 41، ربيع الأول 1389، جزء 3.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين