ورقات في تاريخ القدس وفلسطين(8)

(8) فلسطين بعد صلاح الدين وتسليم المسجد للصليبيين 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد.

ما إن مات صلاح الدين الأيوبي؛ حتى أرسل الصليبيون حملة صليبيَّة رابعة لاسترداد بيت المقدس؛ هزمها خلفه: الملك العادل في اللاذقية؛ فأدرك بعدها الصليبيون أن مصر هي مركزُ المقاومة الحقيقية في العالم الإسلامي ضدهم، وأنها النقطة الأولى في طريق الاستيلاء على بيت القدس؛ فأرسلوا حملة صليبيَّة خامسة وجهتها دمياط، حاصرتها تسعة أشهر؛ عرض عليهم خلالها الملك الكامل التنازل لهم عن بيت المقدس، وعن كل الأراضي والمدن التي كانت بأيديهم قبل معركة حطين، ولكنهم رفضوا ذلك، واستطاعوا الاستيلاء على دمياط عام: (616 هـ)، وكان ذلك فاجعة عظيمة حلت بالمسلمين.

لقد كان الملك الكامل متساهلاً جدًا عندما قدَّم هذا العرض المغري للصليبيين؛ لكنه استطاع بعد ذلك هزيمتهم في المنصورة مقبرة الصليبيين، وأجبرهم على طلب الصلح معه، مقابل تنازلهم عن دمياط، وخروجهم من كامل مصر، وسلموا دمياط للمسلمين، عام: (618 هـ)، وكان يومُها يوماً عظيماً من أيام الإسلام.

ما إن زال الخطر الصليبي عن بيت المقدس؛ حتى عاد الأمراء الأيوبيُّون إلى سالف عهدهم، وانبعثت الخلافات والنزاعات بينهم من جديد، فخرج الملك المعظَّم في الشام عن طاعة أخيه الملك الكامل في مصر، وأخذ يعمل لتوسيع ممالكه، فتحالف مع الخوارزميين لتحقيق ذلك؛ مما دفع الملك الكامل لمراسلة الامبراطور البيزنطي؛ ليمدَّه بقوة عسكرية، تضعف من قوة أخيه المعظم، على أن يمنحه الكاملُ بيتَ المقدس، والمدنَ الساحلية التي فتحها صلاح الدين، ولقد كان الملك الكامل ينظر إلى بيت المقدس على أنَّه عبءٌ ثقيلٌ، لا بدَّ من التخلص منه، لذلك كان كثيراً ما يعرضه على الصليبيين إن أحس بالخطر يهدد مركزه، وكأنه جاريةٌ في سوق النخاسة، متناسياً بذلك أنهار الدماء التي جرت لتخليصه من أيدي الصليبيين، بقيادة عمه صلاح الدين.

استغل الأمبراطور البيزنطي العرض المغري من الملك الكامل، وجاء بحملة صليبية سادسة، وقَّع خلالها صلحًا مع الكامل، عرف بصلح يافا، عام: (627 هـ)، سلمت على إثره القدس للصليبيين، ودخلها الامبراطور فردريك الثاني. أغدق بعده الكامل المال على الأمراء الأيوبيين؛ ليتستروا على تسليم بيت المقدس للصليبيين، وقال لهم: "إنِّا لم نسمح للصليبيين إلا بالكنائس، والمسجد ما يزال على حاله، وشعار الإسلام قائم، ووالي المسلمين متحكم بالأعمال والضياع"، لكنَّ هذا الفعل الشنيع منه أثار حفيظة المسلمين، وعدوه تفريطاً عظيماً منه بحق الإسلام والمسلمين. 

أمر الكامل قاضي نابلس أن يوعز إلى المؤذنين في القدس ألا يصعدوا المنابر، ولا يؤذنوا في الحرم؛ مراعاةً منه لمشاعر الامبراطور الصليبي؛ فعيرهم الامبراطور بذلك، وعابه عليهم، وقال لهم: "تغيِّرون شعاركم وشرعكم ودينكم لأجلي، فلو كنتم عندي في بلادي، هل كنت أبطل ضرب الناقوس لأجلكم؟ الله الله لا تفعلوا، هذا أول ما تنقصون به عندنا". ظلَّت القدس بأيدي الصليبيين إلى أن استردها منهم: الناصر داود، عام: (637 ه). 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين