ورقات في تاريخ القدس وفلسطين(6)

القدس في قبضة الصليبيين وبدايات المقاومة الإسلامية 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد.

استطاع بعض المقدسيين الهرب من القدس -بعد سقوطها- إلى دمشق، ومنها إلى بغداد، يستنهضون الخليفة العباسي؛ ليعلن النفير العام ضد الصليبيين، وينقذ من تبقى من أهل القدس المسلمين، ولكن الخليفة كان أضعف من أن يحرك ساكناً؛ فوجههم إلى السلاجقة، الذين لم يرفعوا بذلك بالاً؛ فلاقى من بقي من المسلمين في القدس شتى أنواع القتل والعذاب؛ حتى إن الصليبيين أخذوا يبقرون بطون المسلمين؛ ظانين أنهم قد ابتلعوا نقودهم ودراهمهم، ولـمَّا طال عليهم ذلك؛ أخذوا يجمعونهم أكواماً ويحرقونهم، ثم يبحثون في رمادهم عن الدراهم والنقود، وقد اختصر الصليبيون ما فعلوه بأهل القدس في رسالتهم إلى البابا قائلين: "إذا ما أردت أن تعلمَ ما جرى لأعدائنا الذين وجدناهم بالمدينة، فثِقْ أنَّه في إيوان سليمان، أو معبده؛ كانت خيولنا تخوض في بحر من دماء الشرقيين المتدفّقة إلى ركبتيها".

أحدث الصليبيون تغييرات كثيرة في المسجد الأقصى، وفيما جاوره من أجزاء البلدة القديمة، لكنهم لم يمسوا قبة الصخرة بسوء، وإنما حوَّلوا مسجدها إلى كنيسة، رفعوا عليها الصليب، ووضعوا فيها التماثيل والصور، واتخذوا من مكان الأروقة المعمدة مستودعات لأسلحتهم، وجعلوا زاوية الحرم الجنوبية الشرقية اصطبلات لخيولهم، وبنوا في القدس عدداً من الكنائس. أقام الصليبيون مملكة لاتينية، امتدت من بيروت إلى العقبة، اتخذوا القدس عاصمة لها، ثم أنشؤوا في القدس فرقتين كبيرتين، هما قوام مملكتهم، الأولى اسمها: (الداوية) اختصت بقتال المسلمين بشراسة وهمجية، ولقي المسلمون منها شدةً واضطهاداً، والثانية اسمها: (الاستبارية) عملها الاهتمام بحجاج بيت المقدس، والمرضى النصارى، ثم تحولت والداوية إلى هيئة حربية، مقرها المسجد الأقصى.

أدرك الصليبيون أن مُقاهم في القدس مرهون بالاستيلاء على ساحل البحر المتوسط؛ ليبقى باب التواصل مع أوربا مفتوحاً، وبإثارة النعرات والخلافات بين المدن الإسلامية؛ لتبقى مقسَّمةً ضعيفةً، أعانهم على تحقيق ذلك: الباطنيون الإسماعيليون. هبَّ المسلمون بقيادة السلاجقة لقتال الصليبيين، وتخليص المسجد الأقصى من أيديهم، وبدأت معاركهم من أرض الجزيرة الفراتية، التي كانت أول من اكتوى بنار الصليبيين، واستطاعوا أن يهزموهم في عدة معارك، كان من أعظمها: معركة حرَّان، وظلوا يقاتلون الصليبيين بقيادة السلاجقة؛ إلى أن ظهر على ساحة الجهاد: عماد الدين زنكي، وبظهوره بدأت مرحلة جديدة من مراحل الحروب الإسلامية الصليبيَّة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين