وداعاً سماحة مفتي حلب الشهباء
 بقلم : محمد فاروق البطل

الأمين العام لرابطة العلماء السوريين

 

 

 

رحمك الله أخي أبا محمد! وأعلى قدرك ، وأسكنك فسيح جناته ، ورزقك صحبة (النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً) .
ووداعاً أيها الأخ الحبيب! فقد مضت عشر سنوات لم تكتحل عيناي بلقياك، لكنك والله لقد كنت معنا بروحك وفكرك وقلبك ، على بُعد الزمان وبُعد المكان ، والله ما فارقَتْنا روحك ، ولا فتر لدينا حبك ، ولا ضعُفَ فينا شوق للقياك ، ولا غابت عنا شخصيتك ، ولا داخَلَنا شك في مواقفك ، ولا اختلَّ لك قدر في أنفسنا. وسبحان مَن أسكن محبتك في القلوب!! ليس على مستوى إخوانك وأحبابك من العلماء والزملاء... بل على مستوى الشعب كله ، وبكل شرائحه ، وبكل فصائله الدعوية والحركية ، كل العلماء في سوريا أخلصوك الحب والتقدير... وأنا أجزم أنه لم يكن لك عدو ، ولم يسبق لك أن خاصمت أحداً، فقد كنت ودوداً وديعاً حليماً رقيقاً مخلصاً وفياً،  كنت تحب الجميع ، ويحبك الجميع.
نعم... وداعاً أخي الحبيب أبا محمد! فارقْتَنا ونحن في أشد الشوق إليك ، فارقتنا وكنا نمنِّي النفس أن نلقاك خلال فترة قريبة في ديارنا، ديار العزة والكرامة بلاد الشام في حلب الشهباء، أعزة كراماً، نحتفي وإياك بانتصار الثورة، ولقاء الأحبة ، ومشاركة الشعب أفراحه بالحرية والعزة والكرامة، والتحرر من حكم البعث والظلم والطاغوت .
لقد حرمنا هذا النظام البائس الظالم لقاءك والاجتماع بك منذ اثنتين وثلاثين سنة، باستثناء لقاءين يتيمين أولهها: كان في دُبي ، وثانيهما كان في جدة . في دُبَي زرتك واستشرتك في مشروع النظام المقترح لرابطة العلماء السوريين ، فأيدتَ وشجَّعت، ثم أرسلت تقترح علينا تعديلاً في اسم الرابطة ، وتعديلاً في أهدافها ، ولبيَّنا طلبك وطلب إخوانك بسعادة ، فإخوانك في الرابطة يعتبرونك بحق أنك  أحد المؤسسين الأوائل للرابطة ، وما تنجزه الرابطة في إعزاز دين الله وتحقيق رسالة العلماء هو في صفحة أعمالك إن شاء الله... وأسأل الله أن يثقل به ميزانك يوم تلقاه في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أما اللقاء الثاني فقد كان في جدة لحضور أحد المؤتمرات الإسلامية على ما أذكر ، دعوتَني للقائك وفرحت بدعوتك، وأسرعت للقياك بشوق، وقد كنت أعلم أنك تحب أن تلقانا لتطمئن علينا، وتسمع أخبارنا . وكان يؤلمك أنَّ يُشرَّد إخوانك وزملاؤك وأحبابك...
نعم...كنت تزورنا حين كنت تأمن عين الرقيب الجاسوس، وقد نشره الطاغية في كل مكان ، في الداخل وفي الخارج ، وليس لأحد استثناء في هذا ، ولا حصانة ، ولا كرامة، فقد كان كل سوري مرصوداً من قبل الأمن السوري، حيث أقام وأنَّى اتجه، مهما كان شأنه ، ومهما علا منصبه... وهكذا قطَّع هذا النظام المجرم الأرحام والأواصر والعلاقات ، وأدخل الرعب في قلوب العباد ، حتى أولئك الذين يأتون للحج أو العمرة أو لحضور مؤتمر، فقد كان في حسبانهم وجود الرقيب الجاسوس، قريباً منهم، وكالظل يتبعهم حيث تحركوا، ويحيط بهم حيث تواجدوا.
ووالله إن شقيقتي الكبرى، والتي هي بمقام والدتي، جاءت للحج ولم تجرؤ وهي في مكة المكرمة، وأنا في جدة، وعلى بعد خمسة وخمسين كيلو متراً لم تجرؤ أن تتصل بي هاتفياً، فضلاً عن أن تزورني : [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ(23) ]. {محمد}.. أسال الله أن يُقطِّع أوصال هذا النظام ، وأن يزلزل أركانه ، وأن يهدمه على رؤوس أصحابه، حتى يذوقوا العذاب الأليم.
كما كان يؤلمك أيها الأخ الحبيب أن تُغيِّب السجونُ أحبابك، وأن يتنكر النظام البعثي الديكتاتوري لعشرات الألوف من إخوانك ممن حُجبت أخبارهم وفيهم علماء ودعاة وأخيار... فلا يُعرَفُ لهم مصير ولا مقر ، رغم الضرورات الإنسانية والقانونية والمعاشية لأزواج هؤلاء المغيَّبين ولآبائهم وأبنائهم، لقد كنت تشاركنا الإحساس بالمأساة، والألم لهذه الجريمة النكراء .
ماذا عساي أن أتذكر من أيام في أخوتك وصحبتك وزمالتك ، وقد كنتَ الأخ الودود الوفي الوديع، اللطيف الرقيق ، زميلاً في التدريس ، رفيقاً في المهمات ، نجتهد مع الشيخ عبد الله علوان ـ طيب الله ثراه ـ وثلة من المدرسين في مواجهة منكرات البعث ، وفساده التربوي ، وعدوانه على الثوابت ، بكتابة العرائض والاحتجاجات، ومقابلة المسؤولين، وتنظيم المظاهرات.
صحيح أيها الراحل الكريم أنك كنت تكبرني سناً وقَدْراً ، ولكني كنت قريباً من أسرتكم الكريمة ، قريباً من والدكم الجليل أستاذي الحبيب ، قريباً من شقيقكم الأخ الأستاذ عبد الله حفظه الله تعالى ، وكنتُ أدرس وإياه في فصل دراسي واحد، خلال دراستنا في الثانوية الشرعية، بل كنت أدرس وإياه في منزل الوالد الكريم، ونتناول طعام الغداء مما تعده الوالدة الكريمة، وكنا نسعد بصحبتكم في مصيف البدروسية، وفي مسابح بساتين حلب، حيث يحضر العلماء الأجلاء الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، والشيخ أحمد البيانوني ، ووالدكم الشيخ محمد السلقيني، والشيخ محمد الحموي ، والشيخ طاهر خير الله ـ رحمهم الله تعالى وأسكنهم فسيح جناته ـ وكان الشباب أمثالي من مدرسي التربية الإسلامية يحوطونهم، ويفيدون منهم، ويتمتعون بمعيتهم.
رحمك الله أبا محمد! لقد كنت نموذجاً محبوباً ، في كل عمل مارسته : مدرساً ومديراً، وأستاذاً جامعياً، وعميداً، ونائباً، ومفتياً ، وخطيباً .
لقد كنت في التدريس من أوائل المدرسين الناجحين المؤثرين لمادة التربية الإسلامية في ثانويات حلب ، وقد أحبك طلابك، وتعلقوا بك، وخرَّجت منهم أعلاماً وقادة.
وكنت مديراً ناجحاً لإعدادية سيف الدولة ، في حي الجميلية بحلب ، وقد أحبك مساعدوك والعاملون معك ، وأدرْت المدرسة بنجاح وتفوق مشهود ، وقد كنت تشكل مع مساعديك وموظفيك وأساتذة مدرستك فريق عمل واحد.
ثم انتُدِبت إلى كلية الشريعة في جامعة دمشق، فكنتَ مدرس الفقه وأصوله مع كوكبة من العلماء الفحول ، أمثال الدكتور الفقيه فوزي فيض الله ، والدكتور الفقيه الداعية أديب الصالح ، والدكتور الفقيه فتحي الدريني ، والدكتور القانوني عبد الرحمن الصابوني ، والدكتور المفكر عبد اللطيف الشيرازي الصباغ ، وغيرهم بعد أن غادرها الأعلام المؤسسون من أساتذتنا، وفاةً أو هجرةً أمثال الدكتور : مصطفى السباعي، والعلامة الشيخ مصطفى الزرقا ، والدكتور معروف الدواليبي ، والأستاذ محمد المبارك رحمهم الله تعالى وأسكنهم فسيح جناته، وهكذا كنتم الحراس الأمناء لهذه الكلية العظيمة.
ثم انتهت إليك عمادة كلية الشريعة أيها الأخ الجليل! فنهضتَ بمسؤوليتها متعاوناً مع إخوانك وزملائك، وواجهت العواصف الهوج التي تستهدف اقتلاع هذه الكلية من أحضان جامعة دمشق، لتكون كلية مهمشة تابعة لوزارة الأوقاف حتى يرتاح البعثيون والملحدون من هذا الصَرْح العلمي الشرعي في قلب دمشق، وفي قلب جامعتها ، وحتى يمهدوا للقضاء على هذه القلعة الحصينة.
وبعدها رحلتَ إلى دُبي فكنت المدرس الجامعي في كلية الدراسات الإسلامية ، وبعدها توليتَ عمادة هذه الكلية لسنوات... تقبل الله منك عملك العلمي والإداري والدعوي وثقَّل به ميزانك يوم تلقاه.
واختارك شعبك المحب في مدينة حلب الشهباء نائباً عنه، وممثلاً له في المجلس النيابي في عهد الوحدة، وبإجماع قلَّ نظيره، حتى لقد تفوقت على المشير عبد الحكيم عامر نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة فيما حصلت من أصوات ، مع ما كان يملكه المشير عامر من وسائل الدولة المالية والإعلامية إضافة للسلطة... تفوقت عليه بحمد الله، بتوفيق الله أولاً ، وبالمكانة العلمية السامقة، وبالذكر الطيب لأسرتك الكريمة التي حظِيَتْ بتكريم شعب حلب وثقته وتقديره. فجدك الشيخ إبراهيم السلقيني كان أحد الشيوخ الربانيين والعلماء أمثال الشيوخ الأجلاء الشيخ نجيب سراج الدين، والشيخ سعيد الإدلبي، والشيخ عيسى البيانوني ، والشيخ الشماع ـ رحمهم الله تعالى وأسكنهم فسيح جناته ـ ولا زلت أذكر أن حكومة العسكر في سورية أعلنت عن انتخابات في السبعينات ، فتذاكرنا الرأي: هل من المصلحة أن يدخل الإخوان المسلمون الانتخابات بأشخاصهم أو بمن يؤيدونهم؟ وشرح الله صدري بصفتي كنت مسؤولاً عن الإخوان في مركز حلب، وشكلتُ لجنة من الشيخ السلقيني رئيساً، وعضوية الأخوين زهير سيلم (أبي الطيب) حفظه الله تعالى، والأخ الشهيد عادل غنوم رحمه الله تعالى . وقد حرصت في تشكيل هذه اللجنة أن يرأسها فقيه عالم رغم أنه لم يكن منظماً في الجماعة، لكنه كان صديقاً ودوداً ، ثم إنه كان يمثل المدرسة الفقهية التقليدية ، أما الأخ أبو الطيب فقد وقع اختياري عليه، لأنني اكتشفت فهمه للسياسة الشرعية، وفقهه فيها، خلال لقائي به في دورة الموجهين التي كنت أديرها وأوجهها ، أما الشهيد عادل غنوم فقد كان يمثل المدرسة القطبية التي تتبنى فكر الشهيد سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ الذي كان يحرص على نقاء الفكر الإسلامي، والمصطلحات الإسلامية ، بعيداً عن مؤثرات الغزو الفكري... وتحدثاً بنعمة الله أقول: لقد  كنت موفقاً في هذا التشكيل الذي يمثل كافة أطياف الفكر الإسلامي.
وكانت نتيجة الدراسة العلمية الراقية التي توصلَت إليها هذه اللجنة هي: (رفض المشاركة في العملية الانتخابية، لأنه كما قال الشيخ إبراهيم ـ طيب الله ثراه ـ المجلس الذي سيُنتخب مطلوب منه الاعتراف بإسرائيل) ولا يليق بالإخوان أو بالإسلاميين المشاركة في مثل هذا البرلمان ، خاصة وأن إسرائيل كانت تضغط على حافظ أسد وتقول له : لا يمكن توقيع أي اتفاقية أو معاهدة معك إلا من خلال اعتماد وإبرام من مؤسسات الدولة وعلى رأسها الهيئة التشريعية في مجلس النواب حتى يتحمل الشعب السوري مسؤوليته تجاه هذه الاتفاقات أو المعاهدات...
وهكذا كان قرار اللجنة عدم المشاركة في الانتخابات لهذا السبب، وتبنت الجماعة هذا القرار، وعممته على كل المراكز، وتحمسَت له، وارتاح له الأخ المراقب العام الأستاذ عدنان سعد الدين رحمه الله تعالى، لكنَّ الشيخ السلقيني ـ رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته ـ زارني وأحد الإخوة الكرام بعد فترة، يطلب تعديل القرار، ودعوة الجماعة لتأييده في الانتخابات ، فعجبت لطلبه الحيي ، وإلحاح زميله ، و قلت يا أبا محمد! ألست أنت الذي شاركت في قرار الرفض؟ ألست أنت الذي علَّلت عدم المشاركة بكذا وكذا... قال : نعم ... كل هذا صحيح، لكن الضغوط عليَّ شديدة ، ورغبة الشعب ملحة في أن أخوض هذه المعركة الانتخابية قلت : يؤسفني أن الجماعة اتخذت قرارها الحازم في هذا الشأن، ولا سيبل للتراجع عنه... وخاض الشيخ الانتخابات ، ونجح ، ولكن دون تأييد أو تصويت من أبناء الجماعة، وبالتأكيد لم تكن نسبة نجاحه في هذه الدورة كنسبة نجاحه في الدورات السابقة. ومع ذلك بقي أبو محمد صديقاً ودوداً للجماعة، لم يغير موقفه منها البتة، واحترم قرارها واجتهادها.
وإن هذا ليذكرني بموقف الشيخ السباعي رحمه الله تعالى في انتخابات 1957 وقد سألته في مدخل كلية الشريعة عام 1957م: أصحيح أستاذنا الكريم أنك ستترشح في هذه الانتخابات التكميلية، قال : معقول يا ابني يا فاروق؟ هل من المقبول أن أخوض الانتخابات في مواجهة قزم من أقزام البعث هو رياض المالكي؟ وهل يليق أن يخوض المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين الانتخابات أمام فرد عادي من جماعة البعث؟ ثم لو كنت أريد خوض الانتخابات لدخلتها من أولها ، والآن هي انتخابات تكميلية ولمدة سنة!!! واطمأننت لهذا الجواب، وارتحت له . لكنني فوجئت بعدها بترشحه لهذه الانتخابات، وعلمت أن السباعي خضع لضغوط علماء دمشق وزعمائها ورجال أحيائها وعلى رأسهم الشيخ الدكتور معروف الدواليبي  رحمه الله تعالى  وقد صوروا له المعركة يومها أنها معركة بين الإسلام والكفر!!! فنزل عند رأيهم ، وخاض الانتخابات ، واجتمعت الدولة والبغي على إسقاطه ، وكانت الكارثة.
ولأن الله جل شأنه يقول : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {المائدة:8} . أشهد أن الحكم الظالم في سورية قد أحسن هذه المرة، وتكاد تكون الحسَنة الوحيدة في تاريخه حين اختار الشيخ الدكتور إبراهيم السلقيني مفتياً لمدينة حلب الشهباء . وكان بحمد الله تعالى اختياراً موفقاً، وكان الشيخ مفتياً مميَّزاً بين مفتي مدينة حلب . فهو مجاز في الشريعة ، مختص في الفقه ، أستاذ في الجامعة لمادة الفقه وأصوله ولفترة طويلة ، عميد لكلية الشريعة وكلية الدراسات الإسلامية ، متابع للدراسات الفقهية المعاصرة ، مشارك في معظم المؤتمرات الفقهية ، وأخيراً فهو سليل أسرة فقهية ، فجده الفقيه الشيخ إبراهيم السلقيني ، ووالده أستاذنا الفقيه الأصولي الشيخ محمد السلقيني ، الذي درَّسني مادة أصول الفقه من كتاب الأستاذ شاكر الحنبلي . وكنت أعجب من الشيخ محمد السلقيني أن يتبنى تدرسينا هذا الكتاب الذي يعرض لهذه المادة بأسلوب جديد ، واجتهادات جديدة غير تقليدية ، مما يدل بالتأكيد على فكر الشيخ المنوَّر وعقليته  المتجددة .
ثم إن الشيخ إبراهيم السلقيني الحفيد الذي أكتب ذكرياتي عنه ، كان إنساناً ملتزِماً لا يقبل أن يساوم أو يهادن ، أو يطوِّع النصوص ، أو يبيع دينه بثمن رخيص ـ  حاشاه  ـ.
وأعتذر للقارئ الكريم أن لا أُسمِّي الأمور بأسمائها فقد أًمرنا بالحديث الشريف أن نذكر محاسن موتانا ، وأن نكفَّ عن مساوئهم ، فقد مر في تاريخ مدينة حلب وغيرها مفتون لم يكونوا في صفاتهم أو مزاياهم في مستوى صفات الشيخ إبراهيم ـ رحمه الله تعالى ـ لذلك سبق لي أن قلت قلت: إنه مفتي مميز ديناً وخلقاً واستقامة وسلوكاً وجرأة ونصحاً وتقوى.
ويبقى السؤال قائماً : لماذا اختار هذا الحاكم الفاسد رجلاً صالحاً مثل الشيخ إبراهيم السلقيني لمثل هذا الموقع الهام ، وعهدُنا به أنه يختار لهذه المناصب المنافقين والوصوليين والانتهازيين من الذين يسبحون بحمده، ويؤدون له فروض الطاعة؟ قيل : إن الداعية الأستاذ فتحي يكن رحمه الله تعالى أمير الجماعة الإسلامية في لبنان سابقا هو الذي رشحه، وتابع تعيينه ، ولعل بشاراً أراد أن يتقرب بهذه الخطوة من الشعب الحلبي ، وأن يترك له نقطة بيضاء يفيد منها في قادم الأيام ، وفعلاً قد حدث هذا ، لأن شعب حلب مجمِع على محبة الشيخ إبراهيم السلقيني ، و مجمع على تقديره واحترامه، فلِمَ لا يسترضي بشار شعب حلب باختياره؟.
وبعد : فقد رحلت عنا أيها الشيخ الكريم إلى جوار ربك، ولنِعم الجوار هو ، وهنيئاً لك هذا الجوار، بما أفضيت إليه من صالح الأعمال ، وخدمة الإسلام ونشر العلم ، وتربية الأجيال ، والنصح لولاة الأمر... مضيتَ إلى ربك وقد صمتَ رمضان، وقمتَ الليل ، وفي ليلة القدر غبت عن هذه الدنيا الغرور استعداداً للرحيل إلى الآخرة ، وكأنَّ الله قد كشف عن بصيرتك فأراك دنو الأجل، وطلبت وداع أنجالك وتجهيز المغسل ، وإعداد الكفن ، وكلها مبشرات بإذن الله، أن الله قد ختم لك بحسن الخاتمة، واليوم يطلق عليك المحبون لقب الشهيد ، وأنا لا أستكثرها  عليك ، فأنت أهل لهذه المنحة الربانية ، ولا أزكيك على الله ، لكني أقول : إن الرواية التي رُوِيت في قصة استشهادك  وأن الدولة قد عمدت إلى قتلك بحقنة سامة! رواية تحتاج إلى تثبت! لكن الأصح والآكد أن يُقال بحق : إنك قد خطبت خطبة قد انفعلت فيها بشدة، وعبرت عن مكنون نفسك ، وعميق ألمك، لما يجري في سورية ، والذين يعرفونك والقريبون منك، يعلمون أنك قلَّ أن تنفعل، وأن الله قد أعطاك هدوء الأعصاب، وشدة الصبر ، والنفس الطويل ، وأقدر أنك اختزنت في نفسك من الآلام والحسرات لما يقع تحت سمعك وبصرك في بلدك الحبيب ، وعلى أيدي الظلمة الحاكمين مالا يحتمله بشر ، شعب يريد الحرية والعدالة والكرامة بعد صبر قارب نصف قرن يقتل أبناؤه  على أيدي رجال الجيش والأمن والشبيحة ، و الإعلام يمارس الكذب والمكر والخبث والتضليل ليصور الأمور على غير حقيقتها ، حاولت أيها الشيخ الجليل أن تنصح وأن  تحذر ، وأن تنذر . لكن السلطة ماضية في غيها وضلالها ، وشيوخ النفاق يمدونهم بالفتاوى والمداخلات والتعليقات الكاذبة ، وبالتأكيد كان لإخوانك ولمحبيك نوع من الضغط على أعصابك أيضاً لتتخذ موقفاً يليق بالعلماء الربانيين ، موقف يحكي ربانيتك ورأيك وموقفك ، وقد كان من بين هؤلاء المحبين إخوانك في رابطة العلماء السوريين الذين رَجَوْك وسائر المفتين أن يتقدموا باستقالاتهم نصرة للشعب السوري المظلوم المقهور ، واحتجاجاً على ما يجري من سفك الدماء، وقتل الأحرار ، واعتقال المتظاهرين ، وتشريد الآمنين ، ومن قبل ذلك رجاك الأخ الكريم الدكتور غسان نجار ذلك... كل هذه الضغوط كنت تختزنها في أعماقك وتتألم... وتتألم ... المحنة تتعاظم... والدماء الزكية تسيل... وأرواح الأبرار تُزْهَق... والبلد تحترق... وأنت في موقعك الديني الرسمي لا تملك أن تفعل شيئاً تنصح ولا يُستجاب لك... تطلب ولا مجيب... فكان أن خطبت تلك الخطبة الأخيرة والجريئة التي عبرت فيها عن حقيقة مشاعرك وآلامك وأحاسيسك ، حتى لقد قيل : إن هذه الخطبة هي الوحيدة من بين خطبك التي لم تستعن فيها بورقة ، وإنما أطلقت لمشاعرك وأفكارك العنان لينطلق بها لسانك ، مؤمناً قوياً جرئياً عزيزاً لا تساوم ، ولا تهادن ، ولا تجامل . وقيل أيضاً : إن المخابرات استدعتك لمقابلة مدير الأمن في دمشق... ورفضتَ الدعوة بجرأة وقلت بحق وصدق : مَن يريدني فليأت لي ، وإذا كان لا بد من مقابلة لي مع أحد المسؤولين فهي مع رئيس الجمهورية فقط، ولا غير، وبشروط ، وحين سئلت عن الشروط قلت : لابد أن يتوقف العنف ، ولابد أن يُسحب الجيش ، ولابد أن يُفك الحصار ، ولابد من الإفراج عن المعتقلين ، ثم يكون اللقاء ، وإلا فلا حاجة للقاء... وأراحك الله من هذا اللقاء لتلقى البر الرحيم.
رحمك الله أبا محمد أيها العبد الصالح ... أيها الأخ الوديع الرقيق ... أيها العالم العامل.
                                                                                 أخوك المحب
محمد فاروق البطل

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين