وانصرني على من بغى علي

عبد العظيم عرنوس

البغي هو تجاوز الحد في الظلم والاعتداء والكبر والاستطالة والعدول عن الحق ، والباغي هو الظالم المستعلي الخارج على القانون
ووفق هذا التعريف يظهر جليا أن الباغي إنسان مريض القلب ، مأزوم النفس ، عليل الفؤاد ، معدوم الضمير والخلق ، يرى أن طينته تختلف عن طينة البشر ، فهو وحده الذي يحق له أن يخترق كل الحدود والحواجز والقوانين ، وهو وحده الجدير بالعلو على جميع الخلق ، وهو وحده الذي لا يُسأل عما يفعل ولو خرج على الأمة يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ،
ونحن إذ ننقب في تراثنا المبارك نجد التشخيص الدقيق لنفسية الباغي ، والسر الذي يكمن وراء بغيه وتطاوله .. إنه التكبر والفخر .. روى مسلم في صحيحه عن عي اض بن حمار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :إن الله أوحى إلي أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولايبغي أحد على أحد .
فالباغي متكبر يرفع نفسه فوق منزلتها فلا ينقاد لأحد .. قال المجد ابن تيمية : نهى الله على لسان نبيه عن نوعي الاستطالة على الخلق وهي الفخر والبغي ؛ لأن المستطيل إن استطال بحق فقد افتخر ، أو بغير حق فقد بغى ، فلا يحل هذا ولا هذا ، وفي الجمع بينهما إشعار بأن الفخر والبغي نتيجتا الكبر .. ومن هذه صفته فهو عصي على العلاج والشفاء .
النبي يطلب النصرة :
إذن نحن أمام نفسية عجيبة غريبة الأطوار شديدة التعقيد ، تغزوها آفات متكاثرة تهلك صاحبها وتهلك غيرها ، ولذا طلب النبي من ربه النصرة على الباغين .. روى الترمذي عَن ابْن ِعَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : كَان َالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه ِوَسَلَّم َيَدْعُو يَقُولُ : ...وَانْصُرْنِي عَلَى مَن ْبَغَى عَلَيَّ .
وروى البخاري عَن الْبَرَاء بْن عَازِبٍ رضي الله عنه قال : لَمَّا كَان َيَوْمُ الأَحْزَاب ِوَخَنْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَأَيْتُه ُيَنْقُلُمِنْتُرَابِالْخَنْدَقِ حَتَّى وَارَى عَنِّي الْغُبَارُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ،وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعَرِ، فَسَمِعْتُهُ يَرْتَجِزُ بِكَلِمَاتِ ابْن ِرَوَاحَة َوَهُوَيَنْقُلُ مِنْ التُّرَابِ يَقُولُ :
اللَّهُم َّلَوْلا أَنْتَ مَااهْتَدَيْنَا ***وَلاتَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ***وَثَبِّتْ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا*** وَإِنْأ َرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
قَالَ : ثُمَّ يَمُدُّ صَوْتَهُ بِآخِرِهَا
(الألى : القوم والأقارب)
وقد عبر الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم عن هذه النفسية المأزومة فقال :
بغاة ظالمين وما ظلمنا *** ولكنا سنبدأ ظالمينا
حتى يطال البغي أقرب الناس
وأحيانا على بكر أخينا *** إذا ما لم نجد إلا أخانا
ونظرا لخطورة البغي فقد قرنه الله مع الشرك في التحريم ، فقال تعالى : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَابَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِسُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {الأعراف:33} ونهى عنه بقوله : إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِوَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءوَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ{النحل:90} وتوعد من يقترف البغي بالعذاب الأليم : إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمعَذَابٌ أَلِيمٌ{الشورى:42} ووعد بنصر من وقع عليه البغي : ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِمَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ {الحج60} وعلى الباغي تدور الدوائر .. جاء في الحكم : ثلاث من كن فيه كن عليه :
البغي : لقول الله تعالى : ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم
والمكر : لقول الله تعالى : ولايحيق المكرالسيئ إلا بأهله
والنكث : لقوله عزوجل : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه
ولعظم جريمة الظلم فإن الانتقام لا تنجو منه الجمادات لو بغى بعضها على بعض .. قال ابنمسعود : لوبغى جبل على جبل لجعل الله الباغي منهما دكا .
البغي قديم جديد :
لو نظرنا في قصص الباغين قديما وحديثا لوجدنا التطابق في نفسياتهم وتصرفاتهم .. فهذا فرعون أستاذ الأساتيذ في البغي في الأرض بغير الحق ، وبلغ في البغي المدى فقد استطال على سلطان الألوهية .. ولما أوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يسري بقومه فرارا من بطش فرعون طاردهم هو وجنوده واستطالوا بالبغي عليهم .. وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَفَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً .. {يونس:90} فعاجلهم الله بالعقوبة .. فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ
فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ {الأعراف:136} .. ورفيق دربه في البغي قارون أشر وبطر .. إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَىعَلَيْهِمْ .. ولم يسمع نصيحة قومه .. إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ .. بل ازداد كبرا وغرورا وتيها .. فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِفِي زِينَتِهِ .. وبينما هو في غيه وبغيه عوجل بالعقوبة فوقع في قبضة العدالة الإلهية .. فَخَسَفْنَابِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ .. فذهب مذموما مدحورا ضعيفا عاجزا .. فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ.. فالأول (فرعون) بغى بسلطانه وقوته , والثاني (قارون) بغى بماله وزينته .
وهذه صيحة النذير لفرعون سوريا الأسد الصغير وقارونها رامي مخلوف وجنودهم ، فالأول بغيه بسلطان الحكم ، والثاني بالمال .. وإننا لنرى موقنين حسب سنن الله الثابتة أن عقوبتهم أصبحت قاب قوسين أو أدنى ، ونهايتهم محتومة .. سُنَّةَ اللَّهِ فِيالَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً {الأحزاب:62}
ولمأ رظلما مثل ظلمينا لنا*** يساء إلينا ثم نؤمر بالشكر
والبغي واحد وإن تعددت أسماؤه واختلفت صفاته ، قال وليد الأعظمي :
فليس جديدا مانرى من تصارع***هوالبغي لكن بالأسامي تجددا
وأصبح أحزابا تناحر بينها***وتبدو بصف الدين صفا موحدا
الأعجل عقابا :
البغي شديد الوطأة على من يقع عليهم ، والبغاة أًصحاب قلوب قاسية حجرية ، لا تبض بنداوة ، والرحمة منزوعة منهم فلا يرحمون رضيعا ولا شيخا فانيا ولا امرأة ضعيفة .. والله تعالى يغار على عباده ، يسمع استغاثاتهم ، ويجيب دعواتهم ، فيعاجل البغاة بالعقوبة .. روىالبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس شيء أطيعَ اللهُ فيه
أعجل َثوابا من صلة الرحم . وليس شيءٌ أعجلَ عقابا من البغي وقطيعة الرحم . واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع. والحديث حسنه السيوطي وملاعلي القاري والسفاريني، وصححهالألباني (بلاقع : جمع بلقع، وهي الأرض القفراءالتي لاشيء فيها)
وروى أحمد عن أبي بكرة رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مامن ذنبأ حرى أن يعجل الله تبارك وتعالى العقوبة لصاحبه في الدنيامع مايدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم . والحديث قال عنه الأرنؤوط وابن مفلح والألباني :  إسناده صحيح وقال الترمذي : حسن صحيح
مخافة البغي :
المؤمن متواضع لربه ، وهو كالجمل الأنف بين الناس نقي الظاهر والباطن ، ضال عن طريق البغي .. روى ابن ماجه عَن ْعَبْدِاللَّهِ بْن ِعَمْرٍو رضي الله عنهما قال : قِيل َلِرَسُولِ اللَّه ِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْه ِوَسَلَّمَ : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟قَالَ : كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ . قَالُوا : صَدُوقُ اللِّسَان ِنَعْرِفُهُ، فَمَامَخْمُومُ الْقَلْبِ؟قَالَ : هُوَالتَّقِيُّ النَّقِيُّ، لاإِثْمَ فِيهِ وَلابَغْيَ وَلاغِلَّوَ لاحَسَدَ . والحديث صححه العراقي والمنذري والألباني. (مخموم : من خم مت البيت إذاكنسته ونظفته)
 وهذا الصحابي قيس بن عاصم رضي الله عنه ،كان له ثلاثة وثلاثون ابنا، وكان ينهاهم عن البغي، ويقول : إنه والله مابغى قوم قط إلا ذلوا ، وكان الرجل من بنيه يظلمه بعض قومه فيدى إخوته أن ينصروه مخافة البغي .
إنه بنهيه لأبنائه أن ينصروا أخاهم مخافة البغي يكون قد تجاوز البغي بمساحات هائلة ، وآماد بعيدة .. وهذا شأن المؤمن في جميع أحواله وتقلباته .. فاللهم انصرنا على من بغى علينا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين