بعد الإغلاظ في الرد الذي نشرتُه، على الأستاذ الجامعي الشيعي العراقي محمد حسين آل ياسين، في هذيانه الذي يتمدّح به على أنه كشفٌ غير مسبوق في فهم بعض آيات القران، وصلني عبر الأخ المشرف ملاحظات وانتقادات من عدد من الإخوة الفضلاء، على اللهجة الشديدة التي كتبتُ بها.
وكان جوابي عليهم عبر الأخ المشرف ما يأتي:
شكرا للأستاذِينَ الفضلاء: ...، و....، و....، و....، وجميع الإخوة الذين انتقدوا عليَّ شدة الأسلوب في الرد على جرأة الدكتور محمد حسين آل ياسين، وافترائه على الله وعلى كتابه وعلى رسوليه نوح ولوط، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام.
وقد جاء في بعض ملاحظاتهم التذكير بدعوة القرآن إلى مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، والتذكير بالمنهج النبوي في الرد على الجهلاء.....
وأحب أن أقول هنا بأني أرى أن الأسلوب النبوي فيه من هذا وذاك.
ولكل مقام مقال.
فمثلا: لمّا أكثر المشركون الغمز والطعن بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت يوما، وقف فقال لهم: أتسمعون يا معشر قريش، *لقد جئتكم بالذبح*، فأطرق القوم.... حتى إن أشدهم فيه وطأة ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، يقول يا أبا القاسم ما كنت جهولا... رواه ابن حبان في صحيحه.
ولما تجمّع المسلمون عند حصون قريظة حول الراية التي يحملها علي رضي الله عنه، نظر اليهود إلى المسلمين ثم سبّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساءه سبا قبيحا، فرأى علي رضي الله عنه أن يصرف النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعيدا عن أولئك السفهاء، فاعترض طريقه صلى الله عليه وسلم وهو مقبل قائلا: يا رسول الله لا عليك أن تدنو من *هؤلاء الأخباث*. فقال: لِمَ؟ أظنك سمعت لي منهم أذى. قال نعم يا رسول الله..... فلمّا دنا من حصونهم قال صلى الله عليه وسلم: *يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟* قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا...
الحديث قوي بشواهده.
وقد ضرب سبحانه مثلا لليهود سيئا حين قال: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا *كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا* ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[سورة الجمعة 5]
كما ضَرب الكلبَ مثلا للمرتد فقال: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ *فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ* إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[سورة اﻷعراف 176]
وقال عن المشركين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا *إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ* فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ ...)[سورة التوبة 28)
وقال عن عبَدَة الهوى: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ *إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا*)[سورة الفرقان 44]
وقال عن المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ *كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ* ۖ ...)[سورة المنافقون 4]
وقال عنهم أيضا في موضعين من كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ *وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ* ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [سورة التوبة 73] [سورة التحريم 9]
فالشدة في زجر الزنادقة والمبطلين مؤصلة، كما أن الرفق في موضعه مؤصل. ولكلٍّ موضعه.
وربنا سبحانه وتعالى جمع لنا الأسلوبين في آية واحدة كثيرا ما يجتزئها الناس عند الاستدلال فيقولون: قال الله تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
ويُغفلون تتمتها التي استثنى الله تعالى فيها فقال: ( إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ...)[سورة العنكبوت 46]
فالتنويع مشروع بحسب ما يقتضيه المقام.
فإن الذي قال: (أسلمُ سالَمها الله، وغِفار غفر الله لها) هو نفسه صلى الله عليه وسلم الذي قال: (عُصَيَّة عصت الله ورسوله).
وكل ذلك ثابت في الصحيح.
وإن الذي قال: (اللهم اهدِ دوسا وائتِ بهم) هو نفسه فدته نفسي، صلى الله عليه وسلم، الذي قال: (اللهم العن رعلا وذكوان).
وكل ذلك ثابت في الصحيح.
فلا يصح أن نَقصر الحفاوة والإشادة والتأسي على هذه دون تلك. ولا أن نضرب هذه بتلك، وكأنهما من مصدرين مختلفين.
وكما أن لزوم الشدة في الرد والتغليط بكل حال ومع كل أحد، ينافي الحكمة ويجافي السنّة، فكذلك فإن لزوم اللين مع المخالف إلى حدّ التبجيل والتوقير في كل حال ومع كل أحد، ينافي الحكمة ويجافي السنّة.
وقد بلغ التساهل في ذلك مبلغا ممجوجا مقزِّزا يأباه الشرع والطبع عندما تسمع أو تقرأ عبارةً مثل (جرائم *السيد* نتانياهو، أو: *السيدة* ليفني، أو: *السيد* بوتين...) إلى غير ذلك مما يجري كثيرا على ألسنة ضحايا هؤلاء الطغاة المجرمين.
وقد جاء النهي الشرعي الصريح الصحيح عن ذلك في الحديث رواه أبو داود وصححه النووي، عن بريدة مرفوعا: (لا تقولوا للمنافق سيّد. فإنه إنْ يكُ سيّدا فقد أسخطتم ربكم عز وجل.)
فالأمر يتطلب حكمة وحُسن نظر في وضع الترفق في موضعه، والغلظة في موضعها.
ومن عيون شعر الحكمة قول أبي الطيب:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته=وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا=مُضِرٌ كوضع السيف في موضع الندى
وقد سبق لي تعقيب واستدراك وتغليط في بعض المسائل لعدد من أهل العلم مثل عبد الفتاح مورو، ومبروك عطية، وبشير بن حسن، والدكتور راتب النابلسي، والشيخ محمد الحسن الددو، وغيرهم، فلم أجاوز مع أحد منهم منطق العلم والحجة، لأنهم ما اعتدوا على مسلّمات، ولا اجترؤوا على الاستخفاف بالآيات والأحكام، وليس عند أحد منهم - فيما أرى - مشروع تشويه للدين، وتضليل وتلبيس على المسلمين.
لكني في ردي على محمد سيد يوسف، أو محمد حبش، وآمثالهما ممن يتبجحون بالزندقة، ويتجاهلون الخطوط الحمراء، ويكذبون على الله ودينه، كما فعل الدكتور محمد آل ياسين، فإني أمزج بين الرد العلمي المحكم، وبين الإغلاظ في التوبيخ والتقريع والانتقاص.
وذلك من قناعة أنطلق منها وهي: أن هؤلاء المبطلين يكتسبون من المشروعية بقدر ما تمنحهم من الاحترام.
ولذلك فإني أتقرب إلى الله تعالى بانتقاصهم، تحقيرا لهم وتنفيرا للقراء من سبيلهم أو الإعجاب بهم.
والغيرةُ على كتاب الله وشرعه وعلى العلم الصحيح، وعلى الأنبياء والأولياء والأصفياء الذين ينتقصهم هؤلاء، وعلى المسلمين المتضررين بتضليلهم وتلبيسهم، أولى من الغيرة على هؤلاء الضالين المضلين الذين ضلّ وما يزال يضلّ ما لا يُحصى من الناس بسبب اغترارهم بهم وبأمثالهم من شياطين الإنس.
مرة أخرى أشكر الإخوة على ملاحظاتهم، وأستغفر الله من كل زلل، وأسأله لي ولهم التوفيق والسداد.
والله أعلم.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول