واجب الشباب نحو ربهم

إن قلنا واجب الشباب نحو ربهم، كان معنى ذلك واجبهم نحو الكمال المطلق‏ والخير المحض والمثل العليا في كل أمر، فإنَّ اللّه جلَّ وعز لم يكلفنا إلا بما فيه صلاحنا وفلاحنا، وتكاليفه أيا كانت عبادات أو آدابا، المقصود بها تربيتنا تربية عالية، وإعدادنا لرجولة صحيحة، وإيصالنا إلى الحقائق التي ترتبط بها سعادتنا المرجوَّة من‏ طريق العلم والعمل والفضيلة.

مضى الزمان الذي كان يعتبر الدين فيه سخرة، أو تقييداً للحرية الصحيحة، أو حرماناً للنفس من مشتهياتها في الحدود العلمية، وهذا زمان تجلى فيه بالدليل القاطع أنَّ الدين‏ حاجة أوليَّة للروح لا معدي لها عنه.

وإذا قلنا الدليل القاطع قصدنا به الدليل العملي المؤسَّس على علم النفس. ولا يتسع لي المجال الآن لبيان ذلك على وجه يوفي بالحاجة العقلية من كل نواحي هذا الأمر الجلل، ولكني أستطيع أن أقول على عجل: إن الفلسفة المادية التي حاولت في خلال قرون ثلاثة أن تقطع كل صلة بين الانسان وما فوق العادة، قد منيت بفشل حاسم لا قيام لها بعده من طريق العلم الطبيعي نفسه لا من طريق العلوم‏ الدينية، فقد توصَّل العلم إلى إحالة المادة إلى قوة أي إلى إثبات أن لا وجود لها، وأنها عرض من أعراض القوة. وبزوال هذه العقبة الكأداء من طريق العقل‏ الإنساني انفتحت أمامه باحة لا حدَّ لها إلى عالم القوي التي هي مصدر كل موجود في عالم الشهادة.

نعم إن زوال هذه العقبة لم يخرج العلوم من مجالها الطبيعي، ولكن كان من آثار زوالها اتساع هذا المجال الطبيعي بحيث لا يتصور العقل له نهاية، وهذا وحده كان ذا أثر بعيد في تأديب الإنسان وردعه عن البت فيما ليس من شأنه أن يبت فيه، وفي تشكيكه‏ في كل ما أسَّسه من الأصول العلمية، وإعادة وضعها في الميزان تحت ضوء النقد الصارم والتمحيص الدقيق. فسقط بذلك العجب الذي كان يخيل للعلماء أنهم أدركوا حدود كل شي‏ء، وأصبح لهم الحق في الحكم بالوجود أو بالعدم على كل ما يعرض لهم‏ البحث فيه، حكما لا يقبل المراجعة، ولا يحتمل التشكيك.

يقول قائل: وما تأثير كل هذا في تقوية عاطفة الدين؟

نقول له: في ذلك أبلغ تأثير، فإنه بعد أن كانت تعتبر المادة مبدأ ومرجعا لكل‏ مخلوق، انتقل هذا السلطان للقوة، وعالم القوي أرفع من عالم المادة بما لا يقدر، ونواميسه‏ أعلي وأعم بقدر هذا التفاوت بينهما، والمحتملات التي تنشأ من هذا الانتقال لا تقف‏ عند حد. وإذا أردت أن تقف على مبلغ التحول الذي طرأ على مذاهب العلماء من‏ حدوث هذا الاكتشاف، فإليك على عجل:

قال الدكتور(فيلبون) في مجلة (العلم والحياة) صفحة 451 من مجلة سنة 1917: «لقد حلت كلمة(القوة)محل كلمة(المادة)فما يدرينا هل تحل كلمة(روح)محل‏ كلمة(قوة)؟هذه المسألة المحيرة لا تزال سرا من أسرار المستقبل»

و قال العلامة(جوستاف لوبون)في كتابه تحول المادة:

«دامت العقيدة في صحة المقررات الكبري للعلم العصري حافظة لقوتها إلى أن حدثت‏ في الأيام الأخير مكتشفات غير منتظرة قضت على العلم العصري أن يكابد من الشكوك‏ ما كان يعتقد أنه قد تخلص منه نهائيا، فإن الصرح العلمي الذي كان لا يري صدوعه‏ إلا عدد قليل من العقول العالية قد تزعزع فجأة بشدة عظيمة، وصارت المتناقضات‏ والمحاولات التي فيه ظاهرة للعيان بعد أن كانت من الخفاء بحيث لا تبلغها الظنون، فأدرك الناس على عجل أنهم كانوا مخدوعين، وأسرعوا يتساءلون : هل الأصول المكونة للمقررات اليقينية لمعارفنا الطبيعية لم تكن إلا فروضا واهية تحجب تحت غشائها جهلا لا يسبر له غور؟»

ثم نقل الأستاذ(جوستاف لوبون)قول العلامة الرياضي(لوسيان بوانكاريه)

هو: «لا توجد لدينا نظريات كبري الآن يمكن قبولها قبولا تاما، ويجمع عليها المجمعون إجماعا عاما، بل يسود اليوم عالم العلوم الطبيعية نوع من الفوضي»

و عقّب عليه الأستاذ(جوستاف لوبون)بقوله: «من حسن الحظ لا شي‏ء أكثر ملاءمة للترقي العلمي من هذه الفوضي، فالوجود مفعم بمجهولات لا نراها، والحجاب‏ الذي يحجبها عنا منسوج غالبا من الآراء الضالة أو الناقضة التي توجبها علينا تقاليد العلم الرسمي(تأمل)، فلا يمكن عمل خطوة للامام إلا بعد أن تتفكك عري الآراء، السابقة».

نقول: يظهر ممَّا قدَّمناه أن تأثير سقوط صرح المادة كان بليغا إلى أقصي ما يمكن‏ تخيله، فهل تتأدي العقيدة في القوة التي تنحل إليها المادة إلى العقيدة في روحانيتها، فيكون ثمرة هذا الهدم والبناء في مصلحة الروح من كل وجه؟

هذا ما يبدو صريحا من أقوال أقطاب العلم، فقد جاء في دائرة معارف القرن العشرين‏ الفرنسية تحت كلمة(مادة)بعد أن عرضت جميع المذاهب عليها ما يأتي:

«علي هذا فجميع الفروض التي فرضت للآن تعجز عن حل تناقضاتها الذاتية ولا تنطبق على الحوادث. فماذا نستنتج من هذه الحال غير أن مدركاتنا العلمية عن المادة، وهي تتفاوت في صلاحيتها كوسائل للترتيب والتحليل، لا تستطيع‏ أن تزعم أنها الحقيقة المطلقة. وهذه الفروض باعتبار أنها لا وظيفة لها إلا تسهيل‏ وتعميم صفات وعلاقات الظواهر المحسوسة، لا يمكن أن تكون حتما إلا رمزية وخداعة كهذه الظواهر نفسها»

ثم ختمت الدائرة الفرنسية هذا الفصل بقولها:

«وعلي هذا فلو صرفنا النظر عن المذهب اللا أدري الذي هو عبارة عن رفض‏ أي محاولة لتفسير الحوادث، فإن المذهب الذي يرمي إليه علماء العلل الأولية هو: أن المادة باعتبار أصلها تنحل، كما فكر في ذلك(لبنتز)، إلى وجود روحاني(تأمل)طبيعته كطبيعة الوجود الذي يتجلي لوجداننا. والمسألة التي تبقي بعد ذلك غير محققة هي أن نعرف: هل الوجود مؤلف من ذرات روحية متميز بعضها عن بعض، أو أنه‏ كائن واحد عام لا يقبل الانقسام ومستمر على الدوام، وأنه العلة والمعلول العام»؟

نقول: إن أثر تدهور الصرح المادي كان بعيدا إلى حد أن حلت الروح محلها في التعليلات العلمية الطبيعية كما تري، فهل بعد هذا إهابة بالعاطفة الدينية إلى اليقظة والعمل فيما خلقت له؟

الانسان يتألف من جسد وروح، ولكل منهما مطالب، فكما يألم الجسد إن قطع‏ عنه المدد المادي، كذلك تألم الروح إن قطع عنها المدد الروحاني. وحرمان الجسد من‏ مقوماته يفضي إلى تعطل وظائفه وإلى تحلله، وحرمان الروح من مقوماتها يؤدي إلى‏ الحيلولة بين إشراقاتها وبين صاحبها، وفي تلك الحيلولة كل ما يتخيل من اضطراب‏ النفس، وفساد القلب، وغلظ الشعور، والسقوط إلى الحيوانية البحتة، بل إلى ما هو أسفل منها. فتجد المبتلي بهذا الحرمان من المدد الروحاني يستسيغ ارتكاب القبائح، ومقارفة الدنايا، والانغماس في الخسائس، والخوض في المقاذر، ظنا منه أن في هذه‏ الإباحة الجنونية سكنا لنفسه الجامحة، ومتنسّما لقلبه المحترق، ولكنه لا يزداد إلا هلعا على هلع، ولا يزال يعالج هذه النيران المتسعرة في باطنه حتي ينتهي أجله، ويذهب إلى‏ حيث يذهب التائهون.

ماذا تتطلب أعصي العقول على الدين بعد أن ألقي الإلحاد سلاحه كما يري على رءوس‏ الأشهاد؟وماذا تنتظر أن تري من أعلام الحق بعد أن صرح العلم بأن المادة تنتهي‏ إلى روح، وأن الروح هي أصل الخلق ومنتهاه؟

فهلمَّ ننقذ أنفسنا من سيادة المادة علينا، لا باحتقارها ولا بالهرب منها، ولكن‏ بإخضاعها لسلطان الروح، حتي لا تطغي علينا فتقودنا من شهواتنا إلى حيث تفقدنا كرامة الانسانية، وشرف العمل على إقامة دولة المدنية الفاضلة في الأرض عمل الانسان لإقامة دولة الروح هو في الحقيقة خدمة لنفسه وللإنسانية وللعلم‏ وللمدنية«إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها»فإن اللّه غنيٌّ عن العالمين. فإن كلفنا اللّه بطاعته فإنما يكلفنا بما يحيينا ويرقينا ويشرفنا، ويتناسب وغرائزنا الفطرية

«ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهِّركم وليتمَّ نعمته عليكم‏ لعلكم تشكرون»

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر : مجلة الأزهر المجلد السادس محرم 1354هـ.

نشرت 2011 وأعيد تنسيقها ونشرها 3-8-2021

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين