واجبنا في

أذيعت من حلب صباح السبت 12 من ربيع الآخر سنة 1378، جعلها الله من الباقيات الصالحات بفضله وكرمه.

أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

فحديثي اليوم عن: واجبنا في "أسبوع معونة الشتاء"

إنَّ المحن التي تنزل بالأمة والكوارثَ التي تصيبها بمثابة مِـحَكٍّ يُكشَفُ به عن جوهر نفوسها وأصالة عنصرها، فإنْ هي تلَّقت الشدائد بالتآزر والتراحم فأعان أغنياؤها فقراءها، وأمد أقوياؤها ضعفاءها كانت أمة نبيلة تستحق الخلود والبقاء، وإن هي توارت عن أداء واجبها، وتقاعس فيها أهل الغنى واليسار عن مواساة ذوي الفقر والإقتار، كان ذلك مؤذِناً بانقراضها ومُشعِراً باضمحلالها وانطماسِ وجودها.

ونحن إذا وازَنَّا بين الأمة العربية المسلمة وغيرها من الأمم، وجدنا لأمتنا السبق الأتم في هذا الميدان، ووجدنا في تاريخنا من أخبار العطف والعون وإغاثة الملهوف وإمداد الضعيف وبذل المال في مرضاة الله عز وجل ما يفوق الخيال ويشبه الأحلام، ذلك لأن الخير في هذه الأمة ينبع من عقيدتها، ويفيض من خصائصها الكريمة ومزاياها الرفيعة، فهي أمة أصيلة عريقة بالفضل والمجد والكرم والنبل، وقد مرت بها قديماً وحديثاً شدائد ونوائب برهنت فيها على تكافلها وحسن تضامنها وسخائها في سبيل الخير.

فهذه كتب التاريخ تسجل بمِداد من نور ما كان عند غزوة تبوك، فقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم الموسرين على تجهيز المعسرين، فأنفق عثمان رضي الله عنه عشرة آلاف دينار، وأعطى ثلاثمئة بعير بأحلاسها وأقتابها وخمسين فرساً، وجاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله وهو أربعة آلاف درهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل أبقيت لأهلك شيئاً؟ فقال: أبقيتُ لهم اللهَ ورسولَه. وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأربعة آلاف درهمٍ وقال: كان لي ثمانية آلاف درهم، فأقرضت ربي أربعة، وأمسكت لعيالي أربعة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت. وتصدّق عاصم بن عدي رضي الله عنه بمئة وَسْقٍْ - أي حِمْلٍ - من تمر. وجاء أبو عقيل الأنصاري رضي الله عنه بصاعٍ واحدٍ من تمر، فقال يا رسول الله: هذا صاع تمر، بِتُّ ليلتي أَجُرُّ الماء بالحبل حتى نِلتُ صاعين، فتركت صاعاً لعيالي، وأتيتك بالآخر. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على ذروة ما تجمع من الصدقات، إيذاناً بعظم قدره وكبير موقعه وإن كان في الظاهر يسيراً قليلاً.

وروى أصحاب السنن في تفسير قوله تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيم﴾، أنه لما نزلت هذه الآية جاء أبو الدَحْدَاح الأنصاري إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، فداكَ أبي وأمي، إنَّ الله يستقرضنا وهو غني عن القرض؟ قال: نعم، يريد أن يدخلكم الجنة به. قال: ناولني يدك. فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقال: يا رسول الله، إني قد أقرضت ربي حائطي، وفي حائطي ست مئة نخلة.

ثم انطلق أبو الدحداح حتى جاء إلى امرأته أمِّ الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة، فناداها: يا أم الدحداح. قالت: لبيك. قال: اخرُجي من هذه الحديقة، قد أقرضتها ربي عز وجل. فقالت له: ربح بيعك، بارك الله لك فيما اشتريت. ثم أقبلت على صبيانها فأخرجت ما في أكمامهم ونفضت ما في جيوبهم من تمر، ونقلت منها متاعها وصبيانها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كم في الجنة من عَذْقٍ رَدَاح لأبي الدحداح. أي كم من النخل الكثير في الجنة لأبي الدحداح عِوضاً عن حديقته هنا.

وروى البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة الأنصاري أكثرَ الأنصار نخلاً بالمدينة، وكان أحب أمواله إليه حديقة تسمى بَيْرُحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويستظل فيها ويشرب من ماءٍ فيها طيب، فلما نزلت ﴿لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون﴾ قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى يقول: ﴿لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون﴾، وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرُحاء، وإنها صدقة لله تعالى، أرجو بِرها وذُخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أَراكَ الله تعالى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بَخٍ بَخٍ - أي جيد عظيم - ذلك مالٌ رابح! ذلك مالٌ رابح! وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله. فقسَّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.

هذه نماذج مشرقة من سيرة سلفنا الصالح في البذل والسخاء، تحدو بسامعها أن يكون سمحاً كريماً سخياً، يبسط يده بالإنفاق في سبيل الله، ولا يزال في الناس بقية من الخير والحمد لله، فقد شهد التاريخ الحديث في أسبوع التسلح، الذي كان من زمن غير بعيد، السخاء العجيب المدهش، من ضعاف الناس وفقرائهم، ولقد جادت أيد فقيرة كريمة بكل ما تملك، شهدتُ طالباً في الصف الثاني عشر فقير الحال يعيش أقسى العيش من العدم والفقر اقتربت منه لجنة جمع التبرعات وليس لديه ما يقدمه ولا درهما واحداً! فما كان منه إلا أن قدَّم قلمه الذي هو وسيلة علمه وتحصيله وعيناه تدمعان من حزنه إذ لم يجد شيئاً من المال يقدمه.

وتحدَّثَ الناس عن رجل بالي الثياب طاعنٍ في السن تبدو عليه آثار الفقر والعري، يدعو مظهرُه للعطف عليه والإحسان إليه، وقف بقرب أحد المجتمعات التي فيها صندوق للتبرع، وجعل يقترب كئيباً حزيناً كاسف البال خجلاً، ما يدري أيُرْفَضُ ما يقدمه أم يُتَقَبَّلُ منه؟! تقدم إلى الواقفين على الصندوق وهو مطرق مستح يتلعثم بكلامه قال لهم: إنه لا يملك إلا ثلاثة أرباع الليرة السورية فهل يقبلونها منه؟ فقُبِلَتْ منه ولكنها أبكت العيون وأسالت الدموع، وأذكت في القلوب شعلة السخاء والجود، وكشفت عن معادن طيبة لا تزال في الناس، وذاك عامل قد جمّع من وارده الضئيل مئة وخمسين ليرة، يريد أن يحج بها إذا تجمع له ما يكفي لأداء فريضة الحج، جاء يشق زحام الناس فقدمها وكله فرح وابتهاج كأنه قادم من أداء فريضة الحج، وتلك امرأة فقيرة عجوز تمشي على استحياء جاءت فجادت بحلقها الرخيص الثمن الذي لا تملك غيره، فكان عند الناس أغلى ما يكون في موقعه ومغزاه، وهناك معلم مُعْدِم يُعلِّمُ في القرية ويلاقي المشقات في تعليمه وعيشه، راتبه كله مئة وخمسون ليرة في الشهر جاد به جميعه وهو يرى نفسه أنه لم يقدم شيئاً! وهناك حمّالٌ مر بالناس وهم يزدحمون حول صندوق التبرع، فوجدهم يتسابقون بتقديم المال وكلهم نشوة وفرح، فانكسرت نفسه أن لا يقدم شيئاً إذ هو لا يملك شيئاً، فقدم عمامته ومشى حاسراً، وهناك موظف فقير في السكة الحديدية يقوم بأتعب الأعمال وأقساها، ويتناول في شهره مئة ليرة، لم تطاوعه نفسه أن يبقي منها شيئاً فجاد بها كلها واقترض من الناس، فعوتب في ذلك فقال: لو أني مرضت وصرفت ذلك المال لاقترضت من الناس، فالحمد لله أني قدمتها في سبيل الله ولم أصرفها في المرض. وهكذا كانت الشواهد كثيرة ناطقة في كل بلد تبرهن على وجود بقية من الخير والسخاء في النفوس.

فيا أيها الأخ المواطن، وهذا أسبوع معونة الشتاء ميدان جديد للخير والبذل، يدعوك إليه حقُّ الأخوة والدين والدفاع عن الأمة والبلاد، فيجب أن يَلقَى منك كلَّ أريحية وسماحة وجود، ولتعلَم أنك إذ تعطي ما تعطيه من مال أو طعام أو لباس أو متاع، إنما تؤدي بذلك قسطاً يسيراً من حق هؤلاء المجاهدين المرابطين على الحدود والثغور، الذين نذروا أنفسهم أن يكونوا الطليعة الباسلة الأولى في وجه العدو، فإن أنت مددت يد المعونة إليهم برهنتَ على صدق أُخوَّتِك لهم وصحيحِ ارتباطك بهم، ثم كان ذلك الذي تجود به ذخراً لك عند الله تعالى في الدار الآخرة، وإنَّ الله قد تكفل لك بالعِوض والخلف عما تنفق في هذه السبيل، فقال سبحانه: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين﴾ وقال أيضا: ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه﴾، وقال جل شأنه في بيان مضاعفة الأجر والثواب: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيم﴾، والسلام عليكم ورحمة الله.

من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين