وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آل بيته وصحابته ومن اهتدى بهديه، وأستعين بالله تعالى على موافقة مرضاته، وبعد:

فيقول الله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40].

إن موجة التطبيع المنتشرة اليوم مع دولة الاحتلال الصهيوني قد سبقتها أقلام وحناجر تمجد في ذكاء اليهود، وحقهم التاريخي - زعما - في أرض فلسطين، وراح بعضهم يزور الجغرافيا فضلا عن التاريخ، فزعموا أن المسجد الأقصى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطائف وليس في فلسطين، وأن القدس ليست في فلسطين؛ يريدون بذلك صرف أنظار المسلمين عن فلسطين السليبة؛ لأن القداسة في هذه الحالة سترتفع عنها، ولن يكون للمسلمين حق فيها، وزعم البعض أن منشأ اليهود هو اليمن وأن التوراة أصلها عربي؛ يريدون بذلك تمتين أواصر العلاقة مع اليهود وإزالة الحاجز النفسي باسم العروبة، وتمهيد الأرض للتطبيع وتقبل اليهود في المجتمع الشرق أوسطي الجديد.

ولكن فلنكن منصفين، ولننظر إلى الأمر بدون تحيز وعصبية، ولندرس تلك القضية من خلال الآية الكريمة السابقة، ونطرح السؤال الجوهري في القضية: ما العهد الذي تشير إليه هذه الآية الكريمة؟ ومن طرفاه أو أطرافه؟ وما بنود هذا العهد؟ وما الشروط الجزائية في حال عدم تحقق هذه الشروط؟ وهل تحققت هذه الشروط أم لم تتحقق؟

زعم ورد:

إن اليهود يزعمون أن الله تعالى قد أعطاهم أرض فلسطين ميراثا أبديا لهم، وأن الله تعالى قد أعطى عهدا لإبراهيم عليه السلام قائلا: (لنسلك أعطي هذه الأرض) [تك: 12/ 7]، وبعد أن كان الكلام عن أرض كنعان (فلسطين) وحدها، اتسعت مخيلة كتبة التوراة، ولعبت أيدي التحريف فضاعفوا المساحة أضعافا مضاعفة، وأضافوا في موضع آخر من سفر التكوين: (لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات) [تك: 15/ 18]، لكن يأتي سفر التثنية آخر الأسفار المنسوبة لموسى عليه السلام ليكشف كاتبه أو كتبته أن الكلام عن أرض كنعان (فلسطين) فقط، حيث يروي أن الله تعالى قد قرب موسى عليه السلام من أرض فلسطين وأخبره أنها هي الأرض الموعودة وأن موسى يموت في سيناء ولا يدخل الأرض المقدسة، ويذكر الكاتب حدود الأرض قائلا: (وصعد موسى من عربات موآب إلى جبل نبو إلى رأس الفسجة الذي قبالة أريحا، فأراه الرب جميع الأرض من جلعاد إلى دان، وجميع نفتالي وأرض أفرايم ومنسى وجميع أرض يهوذا إلى البحر الغربي، والجنوب والدائرة بقعة أريحا مدينة النخل إلى صوغر، وقال له الرب: هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قائلا: لنسلك أعطيها. قد أريتك إياها بعينيك ولكنك إلى هناك لا تعبر. فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب) [تث: 34/ 1 - 5].

ولنا على السرد السابق ملاحظتان:

1. أن هذا العهد شامل لجميع أبناء إبراهيم عليه السلام، ثم لعبت أيدي التحريف لتخصيص العهد بأبناء يعقوب عليه السلام، وسيتضح من بقية المقال أن العهد يشمل أبناء إسماعيل عليه السلام.

2. توحي النصوص السابقة بأن العهد منحة غير مشروطة من الله تعالى لبني إسرائيل، وهذا ينافي نص الآية الكريمة التي صدرنا بها المقال، وسأورد في أثناء المقال تلك الشروط من خلال التوراة نفسها.

فالآية الكريمة تبين أن هناك ميثاقا، وأن هذا الميثاق فيه بنود وشروط، فإن أوفى بنو إسرائيل بما شرط عليهم، أوفي لهم بما شرط لهم، وسنذكر هذه البنود من التوراة نفسها، ونرى هل أوفى اليهود بما شرط عليهم أم لا.

وإليك بنود الميثاق:

1. إن هم آمنوا بالله تعالى وعملوا بالشريعة وأقاموا فرائض الله وأحكامه، جازاهم الله تعالى بالبركة وتكثير الذرية وميراث الأرض المقدسة.

2. وإن هم حادوا عن طريقه وعبدوا آلهة أخرى، وعطلوا أحكام الشريعة، استحقوا اللعنات والقتل والتشريد والإخراج من الأرض المقدسة.

قال موسى عليه السلام: (إذا سمعت إلى وصايا الرب إلهك التي أنا آمرك بها اليوم، محبًّا الرب إلهك، وسائرا في سبله، وحافظا وصاياه وفرائضه وأحكامه، تحيا وتكثر ويباركك الرب إلهك في الأرض التي أنت داخل إليها لترثها.

وإن تحول قلبك ولم تسمع وابتعدت، وسجدت لآلهة أخرى وعبدتها، فقد أعلن لكم اليوم أنكم تهلكون هلاكا، ولا تطيلون أيامكم في الأرض التي أنت عابر الأردن لتدخلها ترثها. وقد أشهدت عليكم السماء والأرض بأني قد جعلت أمامكم الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك، محبًّا الرب إلهك، وسامعا لصوته، ومتعلقا به؛ لأن به حياتك وطول أيامك، فتقيم في الأرض التي أقسم الرب لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيهم إياها) [تث: 30/ 16 - 20].

وقد شدد عليهم موسى عليه السلام الأمر بالعمل بالشريعة؛ لأنها العهد الذي به يطيلون أيامهم في الأرض المقدسة: (ولما انتهى موسى من مخاطبة جميع إسرائيل بهذا الكلام كله، قال لهم: انتبهوا إلى جميع الكلام الذي أنا مشهد به عليكم اليوم لتوصوا به بنيكم؛ ليتنبهوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه الشريعة؛ لأنها ليست كلاما فارغا لكم، بل هي حياة لكم، وبها تطيلون أيامكم على الأرض التي أنتم عابرون إليها الأردن لترثوها) [تث: 32/ 45 - 47].

وبعد موسى عليه السلام حذرهم يشوع عاقبة الكفر بالله عز وجل، وعبادة الآلهة الباطلة، وشدد عليهم في هذا الأمر؛ لأن في ذلك فناءهم، (فقال يشوع للشعب: لا تستطيعون أن تعبدوا الرب؛ لأنه إله قدوس، إله غيور، لا يصبر على معاصيكم وخطاياكم؛ لأنكم إذا تركتم الرب وعبدتم آلهة غريبة، ينقلب عليكم، ويسيء إليكم، ويفنيكم بعدما كان قد أحسن إليكم) [يش: 24/ 19 - 20].

وأكد يشوع عليهم ذلك العهد، والتمسك بالعمل بشريعة موسى عليه السلام، فقال: (فتشددوا جدا لتحفظوا كل ما كتب في سفر توراة موسى، وتعملوا به ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة؛ لئلا تختلطوا بهذه الأمم الباقية معكم، ولا تذكروا اسم آلهتها، ولا تحلفوا بها ولا تعبدوها، ولا تسجدوا لها، بل بالرب إلهكم تتعلقون، كما فعلتم إلى هذا اليوم) [يش: 23/ 6 - 8].

كما أكد عليهم ذلك الوعيد في أكثر من موضع: (إن ارتددتم وتعلقتم ببقية تلك الأمم، وصاهرتموها ودخلتم بينها ودخلت بينكم، فاعلموا أن الرب إلهكم لا يعود يطرد تلك الأمم من وجوهكم، بل تصير لكم شبكة وفخا وسوطا على جنوبكم وشوكا في عيونكم، حتى تزولوا عن هذه الأرض الطيبة التي أعطاكم الرب إلهكم إياها) [يش: 23/ 12 - 13].

فإذا كان بقاؤهم في الأرض المقدسة مشروطا بالإيمان بالله عز وجل وبالعمل بشريعته، كما يظهر من هذه النصوص، فهذا يعني أن الأرض ليست ميراثا أبديا لهم، بل حياتهم نفسها مرهونة بالإيمان بالله عز وجل والعمل بشريعته، وتشريدهم وفناؤهم مرهونان بالكفر به عز وجل ونبذ شريعته.

إذن ذكرنا في السطور السابقة بنود العهد وشروطه، والشروط الجزائية في حال عدم تنفيذ بنود هذا العهد، لكن قبل أن نذكر هل تحققت هذه الشروط أم لم تتحقق، لنا سؤال مهم، وهو:

هل هذا العهد خاص ببني إسرائيل وحدهم؟ أو بأبناء إبراهيم عليه السلام جميعا؟ أم يتسع العهد ليشمل غيرهم؟

حقيقة إن من يطلع على نصوص التوراة يدرك أن هذا العهد لا يخص بني إسرائيل وحدهم، ولا حتى أبناء إبراهيم عليه السلام فقط، بل كل من آمن بالله عز وجل وعمل بشريعته، فالعهد مقطوع معه، سواء كان من بني إسرائيل أو من سواهم، ومن كفر بالله عز وجل وحاد عن شرعه فمستحق للعنات المذكورة في شريعة موسى عليه السلام، قال موسى: (لكي تدخل في عهد الرب إلهك وفيما يرافقه من يمين لعنة، يقطع الرب إلهك العهد معك اليوم؛ لكي يقيمك اليوم له شعبا، ويكون لك إلها، كما قال لك، وكما أقسم لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وليس معكم وحدكم أنا قاطع هذا العهد ومقسم يمين اللعنة هذه، بل مع من هو واقف معنا اليوم أمام الرب إلهنا، ومع من ليس ههنا اليوم معنا) [تث: 29/ 11 - 14].

وصدق الله القائل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، والعجيب أن هذه الآية الكريمة ذكرها الله تعالى وسط الآيات التي تحكي قصة بني إسرائيل في سورة البقرة، وكأنها تذكير لهم بأن هذا العهد لا يخص بني إسرائيل وحدهم، وإنما هو عهد لكل الناس، للإيمان بالله عز وجل والعمل بشرعه وعمل الصالحات، وأن هؤلاء فقط هم المستحقون للأمن، وبقياس المخالفة، فغيرهم مستحق للخوف والحزن والتشريد والتقتيل.

نأتي إلى سؤال آخر، وهو: هل وفى بنو إسرائيل ببنود هذا العهد؟

لقد قضى الله تعالى بعلمه أن بني إسرائيل سينقضون هذا العهد، ويعبدون آلهة أخرى، وسيرفضون شريعة الله عز وجل وينبذونها وراء ظهورهم، وأن الله تعالى سيسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب، ولقد سجل الله عز وجل عليهم ذلك في التوراة وفي القرآن، فقد جاء في التوراة: (وقال الرب لموسى: إنك تضطجع مع آبائك، وإن هذا الشعب سيقوم يزني وراء آلهة الأرض الغريبة التي هو داخل إلى وسطها، ويتركني وينقض عهدي الذي قطعته معه، فأغضب عليه ذلك اليوم، وأتركه وأحجب وجهي عنه، فيصير مأكلا وتصيبه شرور كثيرة وشدائد) [تث: 31/ 16 - 17].

ولقد أخبرهم موسى عليه السلام بما سيئول إليه أمرهم من الإفساد والكفر، وقال لهم: (فإني أعلم أنكم بعد موتي ستفسدون وتبتعدون عن الطريق التي أوصيتكم بها، فيصيبكم الشر في آخر الأيام؛ لأنكم ستصنعون الشر في عيني الرب، فتسخطونه بأعمال أيديكم) [تث: 31/ 29].

وفي نشيد موسى بيان وإشارة إلى أن الأمر سينزع منهم جزاء لهم على كفرهم بالله عز وجل وتركهم العمل بشريعة الله تعالى، ويعطى لأمة جاهلة حمقاء: (هم أغاروني بمن ليس إلها وأغضبوني بأباطيلهم، وأنا أغيرهم بمن ليسوا شعبا، وبأمة حمقاء أغضبهم) [تث: 32/ 21].

وهذا الكلام لا ينطبق على ما تعرضوا له من السبي؛ لأن الفرس كانوا شعبا عظيما وكانت لهم حضارة من أرقى الحضارات القديمة، وحدائق بابل إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة، وشريعة حمورابي تدل على أنهم كانوا شعبا وأمة لهم نظام مدني مستقر، لكن النص يحدثنا ويحدثهم عمن "ليسوا شعبا" وعن "أمة حمقاء"، وهذا الأمر لم يتم إلا بأمة العرب، تلك الأمة الجاهلية، المشرذمة قبائل، الذين لم يكونوا شعبا، وكانوا أمة حمقاء ليس لهم ذكر بين الأمم والحضارات القديمة، اللهم إلا ما كان في العراق والشام من ممالك، وهؤلاء كانوا نصارى لا يعبدون الأصنام، وكذلك اليمن كانت فيهم اليهودية وكان لهم اتصال بالعمران، وليس الحديث عن هؤلاء بل عن تلك القبائل الأمية المشرذمة المتفرقة في أنحاء الجزيرة العربية، فامتن الله تعالى عليهم بإرسال نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فأخرجهم من تلك الجهالات والظلمات، وعلمهم الكتاب والحكمة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4].

وبمحمد صلى الله عليه وسلم تم العهد والميثاق، وأعطي العهد للأمة التي حفظته وعملت أثماره كما قال المسيح عليه السلام خاتمة أنبياء بني إسرائيل معلنا لبني إسرائيل: (إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره) [مت 21/ 43].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين