هيمنة القرآن على الكتب السابقة

 

 

عرض الدكتور محمد خليفة حسن في كتابه "تاريخ الأديان" تفسيرات مهمة لمعنى هيمنة القرآن الكريم على الكتب السابقة، كما جاء في سورة المائدة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}

وأبرز المعاني الواردة في معنى الهيمنة التي أشار لها الدكتور حسن:

(التصديق - الرقابة - الشهادة - الحفظ - الائتمان - الاحتواء - الإحاطة - الكفاية - الشمولية - النسخ - الجمع والمنع).

وفيما يلي عرض سريع لها:

أولاً - التصديق: فالكتب السابقة نزلت على أنبياء مسلمين داخل إطار مفهوم الإسلام كدين للبشرية، فالقرآن تصديق واعتراف بالكتب السابقة، وفي ذلك إشارة لما بقي إسلامياً فيها، وما انحرف عن خط الإسلام منها.

ثانياً – الرقابة: فالقرآن آخر الكتب السماوية وهو رقيب عليها، يحدد الصحيح فيها من الباطل، فهو معيار التعرف على بقايا الوحي فيها.

ثالثاً – الشهادة: فالقرآن شاهد على أن الكتب السابقة من عند الله، فما اتفق من مادتها يثبت أصله الإلهي، وما لا يتفق يبين أنه من عمل الإنسان، فيبين تناقض عمل الإنسان فيها وخلطه والاختلاف الموجود فيه {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء:82].

رابعاً – الحفظ: حيث أحاط القرآن بالكتب السابقة، وعرَّف بها في شكلها الصحيح من خلال ما ورد في القرآن من أخبار الديانات السابقة، ومن نقد ديني وأخلاقي لما أصابها من تغييرات بعمل الإنسان، فبين القرآن صحة ما جاء به الرسل، وبين الزيف الذي أحدثه أقوامهم، وبذلك يحافظ القرآن على المعتقدات الصحيحة للأديان السابقة بعد أن ضيعها أو ضيع بعضها أقوامهم.

خامساً – الائتمان: فالقرآن أمين على الكتب السابقة، ومؤتمن عليها من الضياع بما ورد فيها مما يدل عليها، ويؤكد صحتها، ويثبت وجودها ونزولها، فكأن هذه الكتب أمانة في عنق القرآن، أداها لأصحابها وفيه الكثير من صحيح عقائدها، وتتسع هذه الأمانة لتعرف أتباع هذه الكتب بالباطل فيها الذي تسرَّب إليها.

سادساً – الاحتواء: حيث احتوى القرآن الاعتقادات والمفاهيم الصحيحة الأصلية التي وردت في الكتب السابقة، ومرد ذلك أن الإسلام أصلاً هو دين البشرية، وكل رسالات الأنبياء محتواة فيه.

سابعاً – الإحاطة: فلم يترك القرآن أماً يخص الأديان السابقة إلا وأحاط به وأخبر عنه بصورة مجملة.

ثامناً – الكفاية: ففي القرآن كفاية ويمكن الاستغناء به عن كل ما سواه، لأنه احتواها وقدمها في صورتها الصحيحة، وهذا ما يفسره المعنى التاسع..

تاسعاً – النسخ: فباحتواء القرآن الكريم وإحاطته لكل شيء، نسخ الكتب السابقة، حيث اشتمل على أصولها وعلى الصالح فيها، وقدمها بشكلها الصحيح، وكذلك نسخ الإسلام كل الديانات السابقة باحتوائه وإحاطته بكل ما يلزم الإنسان من الناحية الدينية وعلى الوجه الأكمل والأصح والأسلم، وهو برغم ذلك لم يجبر البشر على التخلي عن كتبهم وعقائدهم واكتفى بتقديم المعرفة الإسلامية بكتبهم وعقائدهم، وبين نقده لها، وتركهم لعقولهم يختارون بين الصحيح والخاطئ، وين التام والناقص، على أساس كامل من التسامح الديني، وحرية الاعتقاد، وعلى أساس من الإقناع العقلي الخالص.

عاشراً – الجمع والمنع: لكل ما ورد في الكتب السابقة، فقد جمع الصحيح ونص على ما يوافق الإسلام وما ينتمي إلى التوحد الصحيح، كما منع القرآنُ الفاسدَ في الكتب السابقة ونَقَدَها وحض على تركها {قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} [الإسراء:81]، فهو الجامع للعقيدة الصحيحة، والأحكام والتشريعات والعبادات الحقيقية، والمانع لكل ما يفسد العقيدة، لذلك كان كافياً للبشرية .

وبعد هذا العرض يتبين لنا أن القرآن جاء ليتمم البناء، ويصحح الاعوجاج، وهو كمصدر إلهي خالص محفوظ من التحريف والتبديل والضياع، استطاع أن يقدم عقيدة الإسلام بمفهومه الواسع الذي دعت لها كل رسالات الأنبياء، وأنه حرص على عدم هدم كل ما سبقه، بل بين مصدره، وأقر صحيحه، وبين سقيمه ودحضه، وهو بذلك يعطي العقل الإنساني مهمة المعاينة والمعالجة والحكم، ويرتب على ذلك حرية في الاختيار بينه وبين الكتب السابقة، فيجد الإنسان نفسه بالخيار بين الأخذ بنظرة القرآن الحقة، أو التمسك بمضامين تلك الكتب التي شابتها الشوائب، ونالها عبث الأيادي البشرية. 

ويقدم مفهوم الهيمنة معياراً مهماً ومحورياً في دراسة الأديان الأخرى من وجهة النظر الإسلامية، سواء كانت سماوية أو وضعية، فهو المنطلق والميزان الذي يوضح مدى قرب أو بعد تلك الديانات عن الصواب، ويمكن من خلال ذلك إجراء التصنيفات والنسب التي تقترب أو تبتعد الديانات عبرها من الحقيقة.

كما أنها تزود الدعاة والباحثين عن الحق بمفاتيح الدعوة من خلال تبيان الصحيح، ومحاكمته عقلياً وحسن البناء عليه، في تسلسل منطقي مقنع، ثم يشرع في تبيان تهافت الباطل ونقده ثم نقضه ونقض ما ترتب عليه بنفس التسلسل السابق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين