هيا إلى العيد الأكبر


الأستاذ الدكتور: عبد الحليم محمود
في يوم من الأيام استدعى سيدنا إبراهيم عليه السلام، ابنه ليسير معه قليلاً، وبينما هما سائران، خاطبه في صراحة صريحة قائلاً: [قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى] {الصَّفات:102}.
في هذا الإقليم الذي كانت الوالدة الحنون، تسعى فيه محزونة حيرى مشفقة تبحث عن قطرات من الماء تحيي بها نفس هذا الغلام ـ الذي كان طفلاً إذ ذاك ـ حتى لا يموت بين يديها ظمأ.
في هذا الإقليم الذي أنقذ الله الطفل وأمه فيه ففجر الماء نبعاً صافياً، فشرب الطفل، وشربت أمه وحمدت الله وشكرته.
في هذا الإقليم، حاولت الأم جاهدة أن تحيي ابنها، وفي هذا المكان نفسه حاول الأب ذبحه استجابة للنداء في الرؤيا.
سبحانك ربي!! أتنقذه صغيراً، وتستبقيه قرة عين والديه: حتى تغلفت محبته في القلوب، وغمرت كيان والديه: تأمر بذبحه، أشد ما يكون الوالدان حرصاً عليه، ومحبة له؟
وما ذنب هذا الغلام البريء؟ وما ذنب أمِّه؟ وماذا جنى والده؟ يختطف منه وقد أتاه على كبر، و بُشِّر به من لدن الله تعالى، بشر به من مع وصفه بالحلم، والحلم سيد الأخلاق، فقال تعالى عنه:[فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ{الصَّفات:101}.
إن حكمة الله فوق كل حكمة، وتقديره سبحانه، فوق كل تقدير. وما ذلك الأمر في الرؤيا إلا أسلوب من أساليبه سبحانه في التربية: يخص به الذين اصطفى من عباده: [إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ{آل عمران:33}. وهذا الاصطفاء يقتضي صفاء وتصفية وإسلاماً كاملاً لله سبحانه، ولقد أسلم إبراهيم عليه السلام نفسه وقلبه، وجمع كيانه لله سبحانه، ونجح نجاحاً كاملاً فيما اختبره الله به من ألا يشرك مع الله أحداً في الحب حتى ولو كان ابنه، حتى ولو كان هذا الابن أتى على لهفة وشوق إليه.
ها هو ذا يرد الله بالمحبة، ويستعد  للتضحية بابنه، لا يتردد، ولا يتباطأ. وإذا كان قد قال لابنه: [فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى{الصَّفات:102} .
فما كان ذلك تخييراً للابن، وإنما هو رغبة من الشيخ المؤمن في أن يستجيب ابنه طوعاً لا كرهاً: فيكون الثواب والجزاء الحسن.
 لقد استجاب الشيخ وأسلم وجهه لله، فكان بذلك مسلماً فما هو موقف الابن؟.
 لقد حقق الابن أمل والده، فأجاب في غير تردد ولا تباطؤ: [يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ{الصَّفات:102}. لقد أسلم الابن: أسلم وجهه لله، طمعاً في رضائه. وأحب رضاء الله، فوق حبه لنفسه، وللحياة الدنيا بأسرها...
فلما أسلما إسلاماً خالصاً صافياً مطلقاً: جاء الفداء من الله، سبحانه، فناداه: [قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلَاءُ المُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ]{الصَّفات:107}.
هذا الإسلام منهما إنما هو لله سبحانه وتعالى وحده، هذا هو الإسلام الذي استتبع الفداء، هذا هو الإسلام الذي يستتبع حتماً الفداء في كل عصر، وفي كل مصر، هذا هو الإسلام الذي ينطوي فيه الإنسان انطواءاً كلياً تحت الراية الإلهية فيكون في حماية الله ورعايته، وعنايته: هو الذي يسجل بحفل تذبح فيه الذبائح يأكل منها البائس والفقير، وتصنع منها موائد شهية تقدم للآكلين شكراً لله على هذه الهداية، وهذا التوفيق الذي كانت نتيجته: الإسلام.
إن هذا الدين الذي كمل في القلب تغمره بالنور، وهذه النعمة التي أتمها الله، وهذا الإسلام الذي رضيه سبحانه... إن كل ذلك: لابد له من عيد بل أعياد تعبر عن الشكر، وعن الحمد، وبمقدار قرب الإنسان من معنى الإسلام يكون عيده الأكبر. ولكل إنسان عيده بمقدار إخلاصه له، وخشيته منه، وخضوعه له، وعبوديته الصافية أو المشوبة.
ما هي الوسيلة الكبرى التي تنتهي بها إلى العيد الأكبر؟
إن من بين الوسائل الكثيرة التي بينها الله لتنتهي بالإنسان إلى الإسلام... ثم إلى العيد ـ إن أسلم حقاً ـ وسيلة كبرى هي: الحج.
وما من شك في أن العيد هو أولاً وبالذات لحجاج بيت الله الكرام، وهو على الخصوص لمن أسلم ـ في الحج ـ إسلاماً صحيحاً منهم، وبمقدار تصحيح الدين،  وتصحيح الإسلام: يكون العيد.
وإذا كانت الأمة الإسلامية كلها: تحتفل فرحاً بالعيد، فإن ذلك: إنما هو احتفال بهذه النخبة النادرة القليلة، التي كمل دينها، وتمَّت نعمة الله عليها، وغمرها نور الإسلام.
أما هذه الوسيلة الكبرى للإسلام الخالص، وبالتالي العيد ـ أعني الحج ـ فإنها تبدأ أول ما تبدأ بالتوبة النصوح الصادقة، ودعاء الله أن يجعل حجه خالصاً لوجه الكريم.
ومنذ هذه اللحظة يقطع صلته بالماضي الآثم ليبدأ مستقبلاً صالحاً كريماً.
وتبدأ شعائر الله في الحج بالإحرام: فيغتسل الإنسان، وينوي غسل الإحرام، ويتم له بذلك الاغتسال الباطني بالتوبة النصوح والاغتسال الظاهري، إنه أصبح من المتطهرين، وتثبيتاً لذلك وعلامة على انقطاع صلته بالماضي، وتجرداً إلى الله: بفارق الثياب المخيطة، ويلبس ثياب الإحرام: بيضاء، ناصعة، ثم ينوي (الإحرام بالحج) ومعنى ذلك: أنه أصبح خالصاً لله، مستجيباً إلى ندائه الكريم بأنه لا يتجه إلى سواه، فينطق فؤاده، وتنطق جوارحه: (لبيك اللهم، لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك: إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) ها هو ذا الآن قد لبي: أي: استجاب إلى الله، ونفي الشريك عنه سبحانه وقصر الحمد عليه واستقر في كيانه: أن ما به من نعمة فمن الله، وأن الملك كله لله، والدنيا والآخرة، الملك والملكوت له سبحانه: لا شريك له. هذه التلبية هي شعاره الدائم، هي سنته المستقرة، ينطق بها إذا صعد، وينطق بها إذا هبط، وينطق بها إذا ركب، وينطق بها إذا نزل، إنها ذكر في كل لحظة، فتصبح بذلك يقيناً تاماً.
حتى إذا ما انتهت به الأسفار إلى بيت الله الحرام، ودخل المسجد قال هذه الكلمات التي تعبر عن التلبية بصورة أخرى وهي: (بسم الله، وبالله، ومن الله، وإلى الله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
ويبدأ الطواف ببسم الله، والله أكبر، ها هو ذا يطوف بالبيت راجياً أن ينال نظرة من رب البيت: لعل الباب يفتح، ولعل الأستار ترتفع، لعل الأقنعة تتكشف فتزول، لعل نسمات الرحمة تهب، لعل رب البيت يأذن بالدخول، لعل الرضا الكريم يغمر الأجواء والآفاق، لعل الله يتقبل: [رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]{البقرة:201}.
ويبدأ السعي بين الصفا والمروة، يبدأ بـ بسم الله، والله أكبر:
إنه يسعى امتثالاً لأمر الله تعالى، ويسعى وهو متذكر تلك السيدة الكريمة التي كانت تسعى في طلب الماء رحمة بابنها.
 إنه يسعى طلباً للنبع الصافي الذي يتفجر من قلبه رحمة وإخلاصاً .
إنه يسعى ليشرب من الكأس التي يشرب بها عباد الله.
 إنه يسعى فيمتلئ قلبه بالرحمة، فيجد العين الصافية التي وجدها كل من حقق هدف الرسالة المحمدية، [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ{الأنبياء:107}. ويجدها كل من قبل هدية الله إلى العالم، وهدية الله إلى العالم: إنما هي سيدنا المصطفى صلوات الله عليه، ورحمته وبركاته فقد قال: إنما أنا رحمة مهداة.
إنه صلوات الله عليه يمتزج بهذه الصفة الكريمة فيكون معها وحدة، فهو رحمة وهو رحمة مهداة، قبلها من قبلها: ففاز في الدنيا و الآخرة.
 [رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا{الكهف:10} .
والحج عرفة: كما يقول صلوات الله عليه، وفي عرفة تجتمع الأرواح وقد تزكت بالتوبة والإحرام، والطواف، والسعي: تتجه إلى الله في ضراعة، وتدعوه سبحانه في خضوع، وتقف شاخصة ببصرها إلى السماء في خشوع طالبة من الله الرحمة العامة الشاملة، والرحمة الخاصة المنجية.
إن ربي قريب مجيب. إن ربي رحيم ودود، (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون).
أما بعد: فإن أعمال الحج في أشهر الحج: تنتهي بهذه الصورة الرائعة صورة العزم المصمِّم على الابتعاد المطلق عن الإثم والمعصية ممثلة هذه الصورة في رجم إبليس مصدر الشر والإثم: إن الحد ينتهي بقتل إبليس بالرجم ـ أو بتعبير أدق ـ ينتهي بقتل الشر حتى لا يتسلل مرة أخرى إلى النفس.
وأما بعد: فيقول صلوات الله عليه: ( من حج فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته  أمه) استحق أن يحتفل بالعيد، وأن يهنأ بالعيد... وها نحن أولاء قد عرفنا الطريق إلى العيد فهيا بنا نسلكه أيها المسلمون :[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ{آل عمران:85}. [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا{المائدة:3}.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الأزهر السنة السادسة والثلاثون، شوال وذي القعدة 1384هـ الجزء الثامن والتاسع.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين