هوان العصاة على الله

 

هوان العصاة على الله
عبد العظيم عرنوس
 
لقد كرّم الله عزّ وجل الجنس البشري أيّما تكريم ، (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)سورة الإسراء (70) ، وأسجد لأبيه آدم عليه السلام الملائكة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّنصَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ {28} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنرُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ {29} فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) سورة الحجر .
 
يا ألله ، إن قلب المؤمن ليهتزّ فرحاً ويطير غبطةً وسروراً وهو يسمع هذا النداء العلوي، وهذا التكريم الربانيّ. ولا يمكن للكلمات مهما بلغت فصاحتهاالتعبير عن آفاق السعادة التي يستشعرها ضمير الإنسان الحي اليقظ وهو يرى من وراء الآباد والآماد يد الله ترعى هذا الإنسان الكريم على الله.
 
وكلما ارتقيت صعداً في مدارج التقوى حزتَ قصب السبق إلى مقام التكريم (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) سورة الحجرات( 13).
 
بيد أن أغلب الناس هانت عليهم أنفسهم فأذلّوها، ولم يقبلوا تكريم الله لهم فهانوا على الله تعالى، والقرآن الكريم ذكر نماذج عن هذا الصنف من البشر الذين استعصوا على هداية السماء، وناصبوا دين الله العداء، ونذروا أنفسهم لحرب الرسل والدعاة إلى الله تعالى، واستعبدوا الناس الذين ولدتهم أمهاتهم أحراراً، وليس آخرهم القذافي المتعجرف المتكبر الذي نازع الله في كبريائه. روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عزّ وجل : (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفتهُ في النار) . صححه السيوطي والسعدي والألباني ، وقواه شعيب الأرنؤوط، وقال الحاكم : على شرط مسلم؛ وإنما أخرجه مسلم عن أبي هريرة بغير هذا اللفظ.
 
فأخذ الله القذافي أخذ عزيز مقتدر، وجعله عبرة لمن يعتبر، وأذله الله وأخزاه على مسمع ومرأى العالم (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْلَا يُنصَرُونَ) سورة فصلت(16)، فذهب غير مأسوفٍ عليه، ضعيفاً عاجزاً حقيراً ذليلاً؛ بل إنّ من تدابير القدر أن انتزعوه من مصرف المياه كالجرذ جزاءً وفاقاً حيث ما فتئ يصف الشعب الليبي الكريم بالجرذان !
ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه
ومع هذا التكريم والرعاية يأبى الكثير من الناس إلا أن يرتكسوا في المهانة وينزلوا إلى رتبة أحط من رتبة البهائم، فإذا فعلوا ذلك فما أهونهم على الله !
 
وقد ذكر ابن كثير وغيره من المؤرخين في سياق فتح قبر صخبر أبي الدرداء رضي الله عنه ( حينما نظر إلى سبي الأعداء فبكى ، ثم قال: ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه) فانظر إلى هؤلاء القوم بينما هم ظاهرون قاهرون لمننا وأهم ، فلما تركوا أمر الله عزَّ وجل وعصوه صاروا إلى ما ترى.
وجاء في رواية : فق الله جبير بن نفير :  أتبكي وهذا يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟!
فقال:  ويحك إن هذه كانت أمة قاهرة لهم ملك ،فلما ضيعوا أمر الله صيرهم إلى ما ترى ،سلط الله عليهم السبي ، وإذا سلط على قوما لسبي فليس لله فيهم حاجة ،وقال: ما أهون العباد على الله تعالى إذا تركوا أمره!!
إن ما تفوه به أبو الدرداء يعتبر مثلا للبصيرة النافذة والفقه في أمر الله تعالى، فهذا الصحابي الجليل يبكي حسرة على هؤلاء الذين أعمى الله بصائرهم ، فلم ينقادوا لدعوة الحق فباؤوا بهذا المصير المؤلم؛ حيث تحولوا من الملك والعزة إلى الاستسلام والذلة لإصرارهم على لزوم الباطل والتكبر على الخضوع لدعوة الحق ، ولو أنهم عقلوا وتدبرو الكان في دخولهم في الإسلام بقاء ملكهم وعمرا نديارهم والظفر بحماية دولةالإسلام ،وإن هذا التفكير العميق من أبي الدرداء مظهر من مظاهر الرحمة والعطف تفتحت عنه نفسه الزكية، فتشكل ذلك في الظاهر على هيئة دموع تنحدر من عينيه ذا الرجل العظيم، ليعبر عما يجول في نفسهم ننظرات الحنان والرحمة والأسى على مصير تلك الأمة التياجت م علها البقاء على الضلال والمآل السيئ بزوال الملك والوقوع في الذلو الهوان، وإنه بقدر مايفرح المسلم بدخول الناس في الإسلام فإنه يحزن من رؤية الكافرين وهم يعيشون في ضلال مع إدراكه ما ينتظره ممن العذاب الأليم المؤبد في الآخرة، فكيف إذا أضيف إلى ذلك وقوعهم في الأسر والتشرد وتعرضهم للقتل في الحياة الدنيا؟
هذه هي أخلاق المؤمن يقتبسها من نبيه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان يتوجع فؤاده، وكادت نفسه تذهب حسرات شفقةً على العصاة والمكذبين، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) الأنبياء (107).
إن المؤمن ببصيرته النافذة، وفراسته الصادقة، لا تخدعه المظاهر الخادعة وهو يرى ما يتقلّب به العصاة من متاع ورخاء وزينة وما يفتح لهم من زخارف الدنيا، بل يراهم بفراسته وهم في أوج قوتهم، أذلّاء صاغرين. ولعلّ تعبير الحسن البصري رحمه الله أبلغ التعبيرات حيث يقول: (لا تنظروا إلى دقدقه هماليج الفسقة، ولكن انظروا كيف يلوح ذلّ المعصية من تلكَ الرقاب).
*الهملاج : حسن سير الدابة في سرعة، وهي كلمة فارسية.
المراجع:
البداية والنهاية لابن كثير
التاريخ الإسلامي مواقف وعبر للدكتور عبد العزيز الحميدي
عثمان بن عفان شخصيته وعصره للدكتور علي محمد الصلابي
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين