همسة في أذن ثائر

الشيخ سلمان العودة
كعادة كثير من شباب الأمة، كنت منذ نعومة أظفاري مهمومًا بقضايا الأمة، متابعًا أحداثها عبر وسائل الإعلام؛ المقروءة، ثم المسموعة، ثم المرئية، ثم أدوات الإعلام الجديد.. حيث صرنا نتابع الحدث فور وقوعه بعدسات شهود عيان.
 
حب الاستطلاع غريزة فطرية، يضاف إليها هنا الارتباط العاطفي بشعوب تجمعنا بها رابطة الدين، فضلًا عن الجنس واللغة والمصير الواحد.
 
الاهتمام إذًا جزء من الانتماء، و«مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم». أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط»، والحاكم في «المستدرك»، وأبو نعيم في «أخبار أصبهان».
لا يصح الحديث سندًا، ولكن المعنى وارد في عشرات النصوص القرآنية والنبوية التي أحكمت عقد الإخاء، وبيَّنت مقتضياته ولوازمه؛ كحديث: «الجسد الواحد»، وحديث: «البنيان المرصوص»، وحديث: «ما آمنَ بي مَن باتَ شبعان وجارُه جائع إلى جنبه وهو يعلم».. إلخ
 
دائرة التأثير أضيق، ففي أحيان كثيرة ينطبق المثل القائل: (العين بصيرة واليد قصيرة)؛ ولذا تغدو الأخبار- أحيانا- سببًا قويًّا للاكتئاب برؤية الدماء والأشلاء، وبتدمير الحياة البشرية، ونهايات الحروب المؤلمة بغلبة القوي ولو كان ظالمًا.
 
نعم؛ ستجري السنة، لكن حتى تكتمل الصورة ثَمَّ آلام وجراح وأحزان، وقد يمرُّ جيل دون أن تتوفر الأسباب لاستحقاق التغيير، ويظل المؤمن راضيًا، مسلِّمًا للحكمة الربانية، واضعًا نصب عينه أن مع العسر يسرًا، وأن مع الدنيا أخرى.
 
إجهاش القلب يستدر دمع العين، ويجعل الصدق ملازمًا للدعاء.
 
الوسيلة «القديمة الحديثة» لا تزال فعَّالة: «إذا اقتربَ الزمانُ لم تكد رُؤْيا المؤمن أن تكذبَ، وأصدقُهُم رُؤْيا أصدقُهُم حديثًا».
معظم رؤياي ورؤيا الناس هي حديث نفس، وأمنيات ومخاوف وهموم، وفي كل مرة أنام عقب وجبة إخبارية أجدني في قلب الحدث، ويتحقَّق لي بعض ما كنتُ آمله، فإذا صحوتُ وجدتني أردِّد قول العباس بن الأحنف:
 
قالوا خُراسانُ أَقصى ما يُرادُ بِنا ... ثُمَّ القُفولُ فَقَد جِئنا خُراسانا
 
متى يُكونُ الذي أَرجو وَآمُلُهُ ... أما الذي كُنتُ أَخشاهُ فقد كانا
ما أَقدَرَ اللَّهَ أَن يُدني عَلى شَحَطٍ ... جيرانَ دِجلَةَ من جيرانِ جَيجانا
يا لَيتَ مَن نَتَمَنَّى عندَ خَلوَتِنا ... إِذا خَلا خَلوَةً يَومًا تَمنَّانا
 
طالما نقلتني أحلامي إلى القدس، وبغداد، وعدن، وبنغازي، وغزة، والقاهرة.. وعايشت رجالها وأحداثها، وكنت شاهدًا (لم ير شيئًا) على نجاحات تاريخية أو حالات تدمير تشمل الجسور والدور والقبور.
 
لم تعد معرفة أسماء المدن والبلدات والقرى حكرًا على طالب متفوق في الجغرافيا، لقد رسمت أسماء بلدات ليبيا وسوريا واليمن وتونس كما بلدات فلسطين في ذاكراتنا جميعًا.
 
مثلي مثل كثيرين من الناس، أتابع تفصيلات الثورة على الظلم والاستبداد ساعة ساعة وزنقة زنقة، وأحسب بدقة المسافة التي تقطعها، والزمن والتضحيات، والمواقف الدولية، واحتمالات الربح والخسارة.
 
هذه الثورات قامت لرفض الوصاية والإملاء، وتحقيق استقلال الفرد والمجموع، ولذا أميل دائمًا إلى القول بأن هذه الشعوب التي عرفت طريقها وضحت لا تريد منا الكثير من النصائح والإملاءات.
 
القليل إذًا والجوهري هو ما أحاول التذكير به!
لشعوب العالم مشاريعها النهضويَّة: أمريكا، وأوربا، واليابان، والصين، وفنلندا، وسنغافورة، وكوريا.
وإسلاميًّا ثَمَّ مشروع ماليزي، وآخر تركي، وثالث فارسي، وإلى جوارنا وجوارها مشروع صهيوني؛ هذا أولًا.
وثانيًا: فالعرب هم مَن بُعث فيهم النبيُّ الأميُّ، وبلغتهم نزل القرآن، وهم مُلَّاك الثروات الهائلة اليوم، ولم يكن الله ليجعلهم بهذه المنزلة إلا وهم شعب يملك مقومات كافية بل وتميزًا في بعض الجوانب (وليس كلها).
 
هذا يطرح سؤالًا ضخمًا وملحًا:
أين هو المشروع العربي للنهوض؟
أهو الحديث المعاد عن التاريخ؟ أم الظاهرة الصوتية في تمجيد الحاضر وادِّعاء النجاح، وتجاهل حالة التخلف المزمنة؟ أم الأطروحات الفكرية في الدوائر المغلقة، والتي لا زالت في دائرتها النظرية؟
 
إنني شديد الإيمان بأن ظهور هذا المشروع هو حاجة بل وضرورة تاريخية، وأن مكانه لا يزال شاغرًا، إنه الشمس التي حان لها أن تبزغ، والثمرة التي قاربت النضج والقطاف، ولعلي أقول: القدر الذي لا مرد له.
ولقد أصبحت أكثر إدراكًا للكلمة التي يردِّدها علماؤنا: (إذا أراد الله شيئًا هيَّأ أسبابه).
ربيع الثورات العربي كان زلزالًا مفاجئًا هدم أبنية سامقة، لم يدر بخلد أصحابها أن السُّنَّة ستحق عليهم، وأنهم سيكونون عبرة؛ لأنهم لم يعتبروا بغيرهم، وظنوا أنهم استثناء، وأنهم مانعتهم حصونهم من الله، ووضع أساسات جيدة لمستقبل أجمل لشعوب الإسلام.
الحراك الشعبي العفوي كان حدثًا عظيمًا؛ لأنه يعبِّر عن روح تسري خارج إطار التنظيمات والأحزاب والأُطر التقليدية، ولا يُقبل بحال توصيفه كمؤامرة خارجية.
وهذا معنى كبير كنتُ تحدثت عنه مرات كشرط لنجاح أي مشروع، فحتى الفعل النبوي لم يستبعد أحدًا من أهل المدينة، حتى أهل الكتاب والمنافقون وحدثاء العهد بالإسلام، لم يكن مشروعًا إقصائيًّا ولا دمويًّا، كان شعاره «الاستيعاب والتكامل والتطمين»، ولهذا السبب كنتُ شديد المعارضة لمشروع «تنظيم القاعدة» من ناحية مبدئية.
«مشروع القاعدة» كان يريد هدم ما تبقى في الأمة بدعوى إعادة البناء، ولم يكن لديه مشروع حقيقي سوى القتال، وباقي الاستحقاقات مؤجَّلة حتى ساعة النصر.
جاءت الحركات الشعبية لترسم مسارًا جديدًا يعتمد على تحقيق المطالب الأساسية التالية:
1- الحرية السياسية.
2- العدالة وتكافؤ الفرص.
3- محاربة الفساد المالي والإداري، واعتماد الشفافية بمعاييرها العالمية.
4- التنمية الشاملة المستدامة بأحدث وأوسع مفهوماتها المستوعبة لحقوق الإنسان، والبيئة، والصحة، والتعليم، والإعلام، والأسرة.. للأجيال الحاضرة والقادمة.
5- الحفاظ على التميّز الأخلاقي والتشريعي لمجتمعات ورثت قدرًا طيبًا من قيم الإسلام، ولديها القابلية لتعميقه وتحويله إلى روح تحفيزية للإبداع والعمل والانجاز والتعايش.
واعتمد التحرك الشعبي على الوسائل السلمية كأداة للعمل، وكان يقدِّم التضحيات الجسيمة، ويرفض الانجرار للحرب الأهلية مهما أمكن!

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين