قالوا: ما العقل؟ قلت: هو القوة المدركة والمفكرة اتي أُودِعها الإنسان، وبها تنتظم أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، ومن الناس من يعبِّر عن هذه القوة بالنفس الناطقة، وهي التي يحسبها أهل المنطق اليوناني الفصل في تعريف الإنسان، فيقولون: الإنسان هو الحيوان الناطق.
قالوا: ما موضع العقل من الإنسان؟ قلت: هو أشرف ما أنعم عليه متصفا به اتصافا، فبه يمتاز عن البهائم والأنعام وسائر الدواب، وبه يستعين في معرفة الخير من الشر، والحسن من القبيح، والنافع من الضار، وبه يختبر الأشياء ويجربها، وبه يطور المعلومات أيما تطوير.
قالوا: زدنا، قلت: إذا خلت أقوال الإنسان وأفعاله وسلوكياته من العقل عُدَّ سفيها أخرق، وإذا تحلَّت به عُدَّ رشيدا حكيما، وما أضيف العقل إلى شيء إلا زانه ورفعه حتى العبادات المحضة إذا كانت عن تعقل وتفكر طابت وصفت، وإذا كانت عن غفلة وإعراض تكدرت وتبشعت، وما أعطى الله الخلق قوة إلا ليستعملوها وينتفعوا بها، فكيف بهذا العقل المعروفة بركاته والمشهورة ثمراته؟
قالوا: كم مضى عليك وأنت تدعو الناس إلى العقل؟ قلت: ألهمني الله عظمة العقل وأنا طالب في دار العلوم لندوة العلماء، وزادني إدراكا لجلالة شأنه احتكاكي بعدد من شيوخي، وحدثت عن بعض ذلك في مقالي "من علَّمني النظر"، وهو مطبوع منذ سنين في كتابي (من علَّمني) المطبوع في الهند ومسقط، وترجم إلى اللغة الإنكليزية وطبع وتداوله الناس بالقبول، ثم لما قدمت إلى أوكسفورد سنة 1991م استحثثت طلابي على إعمال العقل، حتى إن الأغلبية الساحقة منهم أكدت لي مرارا أن أفضل ما أخذوا عني هو إعمال العقل والفكر والنظر، ثم درَّستهم كتب الفلاسفة والحكماء، حتى يتدربوا على العقل والفكر.
قالوا: ما الذي درستهم؟ قلت: درّستهم مرارا فصولا من (الشفاء) لابن سينا، و(مقاصد الفلاسفة) للإمام الغزالي، و(تهافت الفلاسفة) له، و(تهافت التهافت) للعلامة ابن رشد، و(الرد على المنطقيين) للإمام ابن تيمية، و(حجة الله البالغة) للإمام أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي، وكتبا في أصول الفقه ومتعلقاته تعمق النظر كـ (الرسالة) للإمام الشافعي، و(الفروق) للقرافي، و(أصول السرخسي)، و(الموافقات) للشاطبي، و(إرشاد الفحول) للقاضي الشوكاني، وألفتُ لهم مختصرات في المنطق وأصول الفقه قد قرر تدريسها في دور التربية والتعليم.
قالوا: ما الذي حملك على كتابة مقال "وظيفة العقل"؟ قلت: لما رغَّبْتُ أصحابي في إعمال العقل ودعوتهم إلى النظر والفكر كثر سؤالهم عن وظيفة العقل، فكتبت هذا المقال، وعظم النفع به، ونقلوه إلى الإنكليزية، وبالغ العلماء في الثناء عليه.
قالوا: بلغنا أخيرا أن من الناس من قرأ ذلك المقال، فظن أنك معطل للعقل أو مقلل من شأنه، قلت: استغربت ذلك الظن استغرابا، فالمقال يتحدث عن وظيفة العقل، أوليس الحديث عن وظيفة العقل تقريرا للعقل؟ أرأيتم إن كتبت مقالات عن وظائف الفقيه، والمفتي، والمحدث، والنحوي، والرياضي، والحاسوب الآلي؟ أتستدلون بها على استنكاري للفقه والفتوى والحديث والنحو والرياضيات والكمبيوتر؟ قالوا: لا، بل نستدل بها – على العكس من ذلك تماما – على تقريرك لهذه العلوم والفنون، قلت: أصبتم، وهذا الفهم الذي إذا حرمه الإنسان حرم الخير كله.
قالوا: يؤلمنا أن يتهمك بعض الناس بإنكار العقل، قلت: لا تهمنكم اتهمامات الناس، فلم يسلم منها نبي ولا رسول، ولا عالم ولا فقيه، ولا حكيم أو فيلسوف، ألا ترون أن من الناس من يحسبني متفلسفا، أو معتزليا، أو أشعريا، أو ماتريديا، أو أثريا، أو سلفيا، أو صوفيا، أو متبعا للغزالي، أو الرازي، أو ابن تيمية، أو شبلي النعماني، أو محمد عبده؟ قالوا: بلى، اتهموك بكل ذلك فتألمنا، قلت: لا تتألموا، واجمعوا همكم للعلم والدين، مستغنين عن أقاويل الناس ومرتفعين عنها ارتفاعا.
قالوا: يرى بعض الناس أن مقالك (وظيفة العقل) فيه إيهام أو إبهام، قلت: لا إيهام فيه ولا إبهام، ولكن الناس دأبوا أن يقرأوا في كلام الناس ما يرغبون فيه، فإذا لم يجدوه رموه بالإيهام والإبهام، وهل ثمة كتاب أبلغ بيانا من كتاب الله تعالى؟ وقد سماه "الكتاب المبين"، ومع ذلك استشكله أقوام واستبهموه وضلوا به وقد جاءهم ليهديهم الصراط المستقيم.
قالوا: وعينا ما تقول، ونريد أن نزداد بك انتفاعا، فلو كتبت مقالا آخر يفصل دور العقل وحدوده تفصيلا مع بيان الأمثلة التي تزيدنا هدى ونورا، وبصيرة وضياء، قلت: سأفعل إن شاء الله تعالى، وإني مريض منذ أيام طريح الفراش، فادعوا لي بالصحة والعافية والتوفيق، وتقبلنا الله جميعا لعبادته وطاعته وزادنا علما ينفعنا في الدنيا والآخرة.
انظر المقال الأول هـــنا
انظر مقال تعقيب على تعقيب للأستاذ زهير سالم هـــنا
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول