هل يُسمح للثورات العربية أن تبني أنظمة سياسية محل الأنظمة الأمنية !؟

سبقتُ إلى صياغة عنوان هذا المقال هكذا : هل تنجح الثورات العربية أن تبني أنظمة سياسية محل الأنظمة الأمنية ، ثم استدركت لإدراكي أن عملية الانتقال من ( النظام الأمني ) إلى ( النظام السياسي ) في أي قطر من أقطار العروبة والإسلام ليس قرارا محليا فقط ؛ بل هو قرار استراتيجي دولي بالدرجة الأولى، وأن الأمر في سياسة المنطقة بأنظمة أمنية محسوم ، ويبدو أنه لا رجعة عنه، وينبع من حزمة من المعطيات : التاريخية والثقافية والجيوسياسية .

تسليط بشار الأسد شخصه ونظامه على قطرنا هو ركيزة من ركائز الصراع التاريخي والحضاري بتجلياتهما المتلاحقة ، ونتيجة مباشرة لوجود الكيان الصهيوني على أرضنا ، كجسم غريب محتاج إلى حواضن تساعد على تثبيته . وما يقال عن بشار الأسد ونظامه الأكثر بشاعة يمكن أن يقال عن أي نظام تغلب طبيعته الأمنية على طبيعته السياسية ، في مرتكزاته وأدواته على السواء

إن فلتات المواقف التي صدرت عن أكثر من جهة دولية في الانسياق مع الموجات الأولى للربيع العربي تم تداركها فيما بعد في كل من مصر وليبية واليمن وتونس . كما شكلت الثورة السورية بكل إنسانيتها ووطنيتها الصدمة التي نبهت أولئك الذين أُخذوا على غرة بثورات الربيع العربي، ودفعتهم إلى موقف استباقي في رفض تأييد ثورة الشعب السوري ودعمها ، مما جعلهم يسبقون إلى محاولات تشويهها ووضع العقبات في وجه انتصارها . لقد كانوا جميعا مطمئنين إلى أن القبضة الأسدية الحديدية لن تسمح لطائر الثورة السورية أن يخفق بجناحيه. ولكن بطولات الشعب السوري المتألقة فاجأتهم وصدمتهم وخيبت ظنهم .

بإيجاز شديد ظلت خلاصة الموقف السياسي الدولي في عالمنا العربي منذ قرن من الزمان : لا لأي نظام سياسي ، ولا غنى لمشروعهم التدميري عن نظام أمني ، يقرون أنه من الممكن أن يتفاوض المتفاوضون على حلقات حزامه .

بعيدا عن أي خلفية إيديولوجية أو برامجية تبقى الفروق عظيمة وأساسية بين النظم الأمنية والنظم السياسية . وسيكون إنجاز الثورة العربية عظيما إذا استطاع حاملوا لواءها أن يؤسسوا لنظم سياسية حقيقة في أقطارهم المطالب إنسانها بحقه في الحياة الكريمة ...

يقوم (النظام السياسي) أصلا على إرادة وطنية جامعة ، ويأخذ على عاتقه هدف تمثيلها ، والتعبير عنها ، وتحقيق مصالحها ، ويحاول جهده أن يضم إلى دائرته شرائح اكبر من المؤيدين والداعمين ، على أساس عقد وطني جامع لا يستثني ولا يقصي ، ويحرص النظام السياسي أمام كل قرار ذي مساس أوسع بحياة المكونات المجتمعية إلى آفاق من التوافق ، تحمي كل المجاميع والمكونات الوطنية من الشعور بالغربة أو الدونية في وطنه . 

ويحمل النظام السياسي على رأس أهدافه خدمة مشروع نهضوي عام ، ويتطلع إلى استفراغ الجهد على طريق النهوض والبناء ، معتبرا الإنسان أي ( المواطن ) فردا وجماعة هو هدف مشروعه العام وأداته في الوقت نفسه . وتكون المواطنة في ظل النظام السياسي بأفقها العام هي مناط الحقوق والواجبات . ففي ظل نظام سياسي لا مساغ للافتئات على حقوق الناس ، هذا الافتئات يحصل فقط في ظل الأنظمة الأمنية التي تقسم الناس كما فرعون الذي (( عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ..))

ويقوم النظام السياسي ، أي نظام سياسي حقيقي ، على دستور عام ، يصدر عن إرادة جمعية ، كما يكون القانون الصادر حسب الدستور نفسه مظلة تظلل كل المواطنين على السواء ...

ويؤمن النظام السياسي بمنظومة من القيم والمثل الإنسانية والأخلاقية ذات الطبيعة الكونية أو النابعة من الثقافة المحلية ، ويرفعها سقفا لتصرفاته ، وخطوطا حمرا في أدائه ، و لا يسمح لنفسه تحت أي ظرف أن يتجاوزها أو أن يعدو عليها ..

بالمقابل يقوم النظام الأمني على قواعد الإكراه والخوف وكسر إرادة الناس ، والسوط والكرسي الكهربائي والزنزانة وغولاغ المعتقلات والمحاكم الاستثنائية و... ..

ودائما يبقى الهدف العام للنظام الأمني هو ( السلطة ) نفسها التشبث بها ، والاستئثار بأدواتها ، وارتكاب كل الجرائم للمحافظة عليها مهما كلف ذلك من ثمن للأشخاص والأوطان .

 وتبقى دائرة اهتمام النظام الأمني شخصية فردية أو أسرية أو فئوية أو حزبية أو طائفية . وأهل الثقة دائما هم الطبقة المحمولة بالإكراه على رقاب الناس ، تمتهن كرامتهم ، وتستأثر بفرصهم ، وتسرق جهد فقيرهم ومال غنيهم ..

في ظل النظام الأمني لا مشروع إنساني ولا حضاري ولا وطني وإنما هو فضاء من التخبط والاستنزاف تستنزف فيه الثروات ، وتبدد الطاقات ، وتعيش الشعوب في ظل حالات كالتي عاشتها وتعيشها أمتنا منذ قرن من الزمان حتى أصبحت دولنا وأقطارنا مثل السوء في إحصاءات التنمية البشرية تكون دولنا الأولى في إحصاءات السلب في كل ميدان والأخيرة في إحصاءات الإيجاب ...

ومع كل ما مرّ لا يزال النظام الأمني هو الاستراتيجية التي قررها أعداء شعوبنا لها هذا هو خيارهم لهذه الشعوب . ورغم كل ما عرف العالم عن حجم الفساد والاستبداد والقسوة والجريمة التي مثلها ويمثلها نظام بشار الأسد في سورية وفي لبنان والمنطقة ؛ فإن المنطق الدولي ما زال يتمسك بوجوب الشراكة مع كتلة من الشر هذه ، شراكة يصفها زورا بالوطنية ، ويزينها بأنها الحل السياسي مع أنه الحل الأمني بامتياز مع أشخاص لم يعرفوا السياسة يوما ولم يمروا على واديها . ما يزال المنطق الدولي يصر على أن يفرض على شعبنا لأسباب غير مجهولة أن يبقى في أسر نظام أمني يظلم ولا يعدل ، يفسد ولا يصلح ، يهدم ولا يبني ...

وبإيجاز نرد لكل السوريين : إن كل ما فوق النظام السياسي والدولة الحديثة مجرد تفاصيل وليس من الحكمة أن يتتايع العقلاء للاختلاف على التفاصيل ..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين