هل يجوز تطبيق الحدود في سورية في الوقت الراهن؟

نص الاستشارة :

هل يجوز تطبيق الحدود في سورية في الوقت الراهن؟

الاجابة

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه، وبعد:

ممَّا لا خلافَ فيه بين جمهور الفقهاء أنَّ الحدود التي شرعها الله تعالى لعباده لا يقيمها إلا الإمام أو نائبه، وذلك تحقيقاً لمصلحة العباد في صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وتأديباً للجناة على جنايتهم، وإرضاء للمجني عليهم، وزجراً لمن تسوُّل له نفسُه الاقتداء بهم .

 

والإمام بما يملكه من شوكة ومنعة، تنقاد بهما له الرعية، وتخضع لحكمه، وتُسَلِّم بأمره، مع انتفاء تهمة الميل والمحاباة والتواني عنه في إقامة الحدود، كلُّ ذلك يجعله مظِنة لإقامة الحدود على وجهها الشرعي المطلوب، الذي يحقق المقاصد الشرعية الضرورية التي شرعها الله تعالى لعباده.

كما أننا نقرأ في السير أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم هو من كان يتولى إقامة الحدود، ثم خلفاؤه من بعده، وهكذا في كلِّ الأزمان، ولا يُتصور أن يوكل تطبيق الحدود للأفراد لما في ذلك من مفسدة عظيمة، وافتئات على الحاكم، وانتشار للفوضى.

 

يقول الدهلوي رحمه الله:« اعلم أن من أعظم المقاصد التي قصدت ببعثة الأنبياء عليهم السلام دفع المظالم من بين الناس، فإن تظالمهم يفسد حالهم، ويضيق عليهم..».

ويقول ابن عاشور رحمه الله:« مقصد الشريعة من التشريع حفظ نظام العالم، وضبط تصرف الناس فيه على وجه يَعصم من التفاسد والتهالك، وذلك إنما يكون بتحصيل المصالح، واجتناب المفاسد، على حسب ما يتحقق به معنى المصلحة والمفسدة».

 

وأمَّا إذا خلا الزمان والمكان من الإمام المسلم أو من ينوب عنه، للقيام بمصالح العباد، ودفع المظالم، ودرء المفاسد، وإحقاق الحقوق، وفضِّ المنازعات، كالحالة التي تعيشها المناطق المحررة في شامنا المكلوم، فإنَّه يجب على العلماء وأهلِ الحل والعقد من المسلمين أن ينصِّبُوا قاضياً شرعياً يقوم بذلك، وهذا من باب الضرورة الشرعية، وإلا فسد حال الناس، وضاعت حقوقهم، يقول ابن القيم:« ولولا عقوبة الجناة والمفسدين لأهلك الناس بعضهم بعضاً، وفسد نظام العالم، وصارت حال الدوآبِّ والأنعام الوحوش أحسن من حال بني آدم».

 

قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: «إذا عدم السلطان لزم أهل الشوكة الذين هم أهل الحل والعقد أن ينصِّبوا قاضياً، فتَنْفُذُ حينئذ أحكامه للضرورة الملجئة لذلك، وقد صرَّح بنظير ذلك الإمام (الجويني) في الغياثي فيما إذا فقدت شوكة سلطان الإسلام أو نوابه في بلد أو قطر، وأطال الكلام فيه ونقله عن الأشعري وغيره، واستدلَّ له الخطابي بقضية خالد بن الوليد وأخذه الراية من غير إمرة لما أصيب الذين أمَّرهم النبي صلى الله عليه وسلم زيد فجعفر فابن رواحة رضي الله عنهم، قال: وإنما تصدَّى خالد للإمارة لأنه خاف ضياع الأمر فرضيَ به صلى الله عليه وسلم ووافق الحقَّ فصار ذلك أصلاً في الضرورات إذا وقعت في قيام أمر الدين».

 

ولكن لا بدَّ من التأكيد على أن هذا العمل هو من أحكام الضرورة، والضرورة تقدَّر بقدرها، خصوصاً فيما يتعلق بحدي القصاص والحرابة.

 

فلذلك ينبغي على من يُنصَّبُ للقضاء بين الناس والفصل بينهم، وفض منازعاتهم، أن ينأى بنفسه قدر الإمكان عن التَّوسع في تطبيق الحدود، ويسعى لتأخيرها، ويلجأ إلى التعازير الشرعية؛ وذلك لأن الظروف التي تمرُّ بها البلاد والعباد ظروف استثنائية، ولا يخلو أن تعتري أكثر الحدود الشرعية شبهات تدرؤها، وقد ورد عن الصحابة موقوفاً ما يدل على عدم الحرص على تطبيق الحدود عند وجود الشبهات، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ:« ادْرَؤُوا الْقَتْلَ وَالْجَلْدَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، وقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه :« لأَنْ أُعَطِّلُ الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقِيمَهَا فِي الشُّبُهَاتِ».

 

لجنة الفتوى – رابطة العلماء السوريين

23-6-1435هـ


التعليقات