هل ليلةُ القدر حادثةٌ وقعت وانتَهَت فِعْلاً؟

 

كتب أحدُهم على بعض صفحات مواقع التواصل الاجتماعيّ: «إنّ ليلة القدر الموصوفة في القرآن الكريم هي حادثة حصلت وانتهت، مثلها مثل الحوادث الأخرى التي حصلت في عهد الرسول، كغزوة بدر مثلاً، وإن تكرارها ومجيئها كل سنة في رمضان هو من الأوهام التي يريد المسلمون فيها تحقيق أمنياتهم». انتهى.

أقول: هكذا وبجرّة قلم كما يُقال، أبطل هذا الكاتب ما توارثه المسلمون عبر أكثر من ألف وأربع مئة سنة جيلاً عن جيل من الاعتقاد بليلة القدر وتطلُّبها كلَّ سنة!

وهكذا وبإلقاء الكلام على عواهنه، ومن غير الاستناد إلى قرينة، فضلاً عن إقامة برهان، تجرَّأ هذا القائلُ على أكثر من مليار مسلم في أقطار الأرض، فضلاً عمن سبقهم في الأزمان الماضية، ومن يلحقُهم في الأعوام القادمة، حيثُ رماهم باتباع الوهم، طمعاً في تحقيق أمنياتهم!

وهكذا وبمُجرَّد قياس هذه الليلة على يوم غزوة بدر، سوَّغ هذا القائلُ لنفسِه أن يُلقي بعشراتِ الأحاديث الصحيحة وراء ظهره، غيرَ آبِهٍ بها ولا مُبالٍ، ولم يَدْرِ أنّ قياسَه فاسدٌ من أصلِه، وعلى فَرْضِ صِحّتِه فالنَّصُّ مُقدَّم على القياس، ولا قياسَ في مَورِدِ النَّصّ، وأعني بالنَّصّ: عشراتِ الأحاديث الصريحة في تكرار وقوع ليلة القدر في كلِّ عام.

ونظراً إلى أنه لا يَصعُبُ على هذا الكاتب أن يدَّعيَ ضعفَ هذه الأحاديث جميعاً، وربّما وَضْعَها واختلافَها وتزويرَها من الأُمّةِ الواهمة الطامِعةِ في تحقيق أمنياتها! فسأُناقِشُه بالقرآن الكريم مُستَقِلّاً، ثم سأعرضُ بعضَ الأحاديثِ في آخر هذه المقالة لتتميم الفائدة للقارئ الكريم، لا لابتِناءِ المُناقشةِ عليها، فأقول ثانيةً:

ورَدَ الكلام عن ليلة القدر في القرآن الكريم في موضعَينِ: في سورة القدر، وفي الآية الثالثة من سورة الدخان، وليكن الكلامُ عن كلِّ موضع على حِدة.

أولاً: في سورة القدر:

وصف الله تعالى ليلةَ القدر في هذه السورة بأنها ?تَنزَّلُ الملائكةُ والرُّوحُ فيها بإذنِ ربِّهم من كلِّ أمر? [القدر: 4]، و«تَنزَّلُ» فعل مضارع حُذِفَ منه حرفُ المضارعةِ تخفيفاً، أي: تَتَنزَّلُ، والفعلُ المضارع يُفيدُ التَّجدُّد والاستمرار، فلو كانت ليلةُ القدر حادثةً وقعت وانقَضَت لقال: «تَنَـزَّلَتِ الملائكةُ والرُّوحُ فيها ...»، ولكنَّه لـمّا عدَلَ عن الماضي إلى المضارع أفاد أنها حادثةٌ مُتكرِّرةُ الوقوع.

ولمزيد من البيان في هذا المعنى أضربُ مثالاً:

لو قُدِّرَ لك أن ترى صديقاً عزيزاً بعد غياب عدّة سنوات مرّةً واحدةً، وكانت يومَ خميس مثلاً؛

1ـ فلو كانت في الخميس الماضي لقُلتَ: يومُ الخميس يومٌ جميلٌ رأيتُ فيه صديقي فلاناً.

2ـ ولو كانت في الخميس القادم لقُلتَ: يومُ الخميس يومٌ جميلٌ سأرى فيه صديقي فلاناً، وهو الأصل، ويجوزُ أن تقول هنا أيضاً: يومُ الخميس يومٌ جميلٌ أرى فيه صديقي فلاناً. لأنّ المضارع يحتملُ الحال والاستقبال، كما هو مُقرَّر في علم النحو.

3ـ ولو كنتَ اتفقتَ معه على أن تراه في كلِّ خميس لقُلتَ: يومُ الخميس يومٌ جميل أرى فيه صديقي فلاناً.

وعليه، فقوله تعالى: ?ليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهر? هو كقولنا: «يوم الخميس يوم جميل» [والتشبيه للتفهيم، وإلا فكلامُ الله لا يُشبَّه بشيء من كلام خَلْقِه]، وقوله: ?تَنزَّلُ الملائكة والروحُ فيها? هو كقولنا: «أرى فيه صديقي فلاناً»، والفعل «تَنزَّلُ» فعلٌ مضارع، فيَتَعيَّنُ أنّ هذا التَّنزُّلَ إما سيقع مستقبلاً أو مُستَمِرُّ الوقوع، والاحتمالُ الأول مُمتَنِع، لأنه لا خلافَ في أن ليلة القدر قد وقعت ليلةَ نزول القرآن، فتَعيَّنَ الاحتمالُ الثاني، وهو أنها وقعت وتقع وستقع، أي: أنها مُستَمِرّة الوقوع.

ثانياً: في سورة الدخان:

وصف الله تعالى ليلة القدر في مطلع سورة الدخان بأنها «ليلة مباركة»، فقال: ?إنّا أنزَلْناهُ في ليلةٍ مباركة? [الدخان: 3]، ولو بحثنا عن وصف «مُبارَك» أو «مباركة» في القرآن الكريم لوجدنا قد ورد صِفةً لعدّة أمور، وهي:

1ـ القرآنُ الكريم، كما في قوله تعالى: ?وهذا كتابٌ مُبارَكٌ مُصدِّقُ الذي بين يديه? [الأنعام: 92، وانظر أيضاً: الأنعام: 155، الأنبياء: 50، ص: 29].

2ـ والكعبةُ المُشرَّفة، كما في قوله تعالى: ?إنّ أوّلَ بيتٍ وُضِعَ للناسِ للذي ببكّةَ مباركاً? [آل عمران: 96]. 3ـ والبقعةُ من جبل الطور التي كان فيها موسى عليه السَّلام، كما في قوله تعالى: ?نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة? [القصص: 30].

4ـ وعيسى عليه السَّلامُ، كما في قوله تعالى: ?وجعَلَني مُبارَكاً أينما كنتُ? [مريم: 30].

5ـ شجرة الزيتون، كما في قوله تعالى: ?يُوقَدُ من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّة? [النور: 35].

6ـ الماء المُنزَّل على الأرض، كما في قوله تعالى: ?ونزَّلْنا من السماء ماءً مُبارَكاً? [ق: 9].

7ـ تحيّة الإسلام، كما في قوله تعالى: ?فسَلِّموا على أنفُسِكم تحيّةً من عندِ الله مُبارَكةً طيِّبة? [النور: 61].

8ـ إنزالُ نوح عليه السَّلام من السَّفينة، كما في قوله تعالى: ?وقل ربِّ أنزِلْني مُنزَلاً مُبارَكاً? [المؤمنون: 29].

ولا شكّ أنّ البركة في هذه الأمور بركةٌ ثابتةٌ بثبوتها، مُرتبطةٌ بوجودها، فلا يُقال: إنّ القرآن الكريم كتابٌ مباركٌ أوّلَ ما أُنزِلَ فقط، ثم نُزِعَت البركةُ منه! وكذا في سائر هذه الأمور، ولا أظنُّ أحداً يُمكنُ أن يُنازعَ في ثبوت البركة في المذكورات، سوى في الأخير منها، إذ لم يدَّع أحدٌ أنّ البركة مُستَمِرّة فيه، فإنزالُه عليه السلام من السَّفينة كان مباركاً مرّةً، لم يتكرَّر، فلماذا لا يكون إنزالُ القرآن الكريم في ليلة القدر كذلك؟

والجواب: أنّ البركة في الآية المذكورة جاءت وصفاً للإنزال نفسِه [مُنزَل: بضمّ الميم، مصدر: أنزَلَ يُنزِلُ، ومن قرأه: ?مَنزِلاً? جعَلَه مصدرَ: نَزَلَ يَنزِلُ، كما في «حُجّة القراءات» لابن زنجلة ص122 و256، وهو مصدر ميميّ، وليس اسمَ مكان]، لا للظرفِ المكانيّ أو الزمانيّ للإنزال، والإنزالُ نفسُه لم يقع إلا مرّة، فلذا لم يتكرَّر وقوعُ البركة فيه، وأما في آية إنزال القرآن فجاءت البركةُ وصفاً للظرفِ الزمانيّ للإنزال الذي من شأنه أن يتكرَّر، وهو ليلةُ القدر، لا للإنزال نفسِه الذي ليس من شأنه أن يتكرَّر.

قد يُقال: الماء المُنزَّل من السماء ليس مباركاً على الدوام، بل قد يكونُ عذاباً في بعض الأحوال؟

فالجواب: أنه قد يكون الوصفُ ثابتاً للشيء في أصله، ثم قد يمتنعُ ظهورُه لفقدان شرطٍ أو وجودٍ مانع، ألا ترى أنّ القرآن الكريم كتابٌ مباركٌ بالاتفاق، والبركةُ فيه مستمرّةٌ متجدِّدة، ومع ذلك فقد قال الله تعالى فيه: ?ونُنزِّلُ من القرآنِ ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيدُ الظالمين إلا خساراً? [الإسراء: 82]، وهذا لا يعني نَزْعَ البركةِ والرحمةِ منه، بل امتنع ظهورُها لفسادِ الطرفِ الآخر وكونه محلّاً غيرَ قابلٍ لتلقِّي هذه الرحمة، ولا صالح لنَيْل تلك البركة.

وكذا فيما نحنُ فيه، فليلةُ القدر ليلةٌ شريفةٌ مباركة، ولكنْ مَنْ قضاها بالفسق والفجور مثلاً فلن تكون له كذلك، لا أنه لا بركة فيها، بل لعدم استعداده لنيل خيرها وبركتها.

ثمّ أيّ فائدةٍ من وَصْفِ مكانٍ ما أو زمانٍ ما بالبركة إذا لم يكن لهذا الوصف من أثرٍ على المُخاطَب، سوى الإخبار المُجرَّد؟ فلو كانت ليلةُ القدر ليلةً مباركةً وقد وقعت وانقَضَت فما الإخبارُ عن بركتها إلا إعلامٌ مجرَّد، وليس هذا هو المعهودُ من المُشرِّع الحكيم سبحانه، فإنه تعالى حيثُ يُخبِرُنا عن مُباركتِهِ لمكانٍ ما كالكعبة المُشرَّفة فإنه يحثُّنا على التَّعرُّض لبركته بالذهاب إليه، وحيثُ يُخبِرُنا عن مُباركتِهِ لزمانٍ ما كليلة القدر فإنه يحثُّنا على التَّعرُّض لبركته، ولكنَّ الذهاب إلى الزمان الماضي مُمتَنِع، فلا بُدَّ إذن أن يأتي هذا الزمان إلينا، وإتيانُ تلك الليلة التي نزل فيها القرآن بعَيْنِها ممتنع، فلا بُدَّ إذن أن تكون مُتكرِّرةً متجدِّدة.

وأعودُ إلى ما وعدتُ به من عَرْضِ بعض الأحاديث الصحيحة في هذه المسألة، فأقول: أفرَدَ بعض أهل العلم ليلةَ القدر بالتصنيف، وأوردوا فيها كثيراً من الأحاديث الدالّة على تكرُّر وقوعها في كلِّ عام، ومنهم الإمام وليّ الدين العراقيّ في كتابه «شرح الصَّدْر بذكر ليلة القدر»، والعلامة علي القاري في رسالته «التبيان في بيان ما في ليلة النصف من شعبان وليلة القدر من رمضان»، وغيرهما، كما تكلَّم فيها كثيرٌ ممَّن صنَّف في فضائل الأيام والشهور، ومنهم الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه «لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف»، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى هذه الكتب وأمثالها.

وأكتفي هنا بالتنبيه على قولِهِ صلّى الله عليه وسلّم: «التَمِسُوها في العشر الأواخر في الوتر» [رواه البخاري (2016) و(2027) و(2036)، ومسلم (1167) عن أبي سعيد الخدريّ]، وقولِه صلّى الله عليه وسَلّم: «التَمِسُوها في العشر الغوابر» [رواه مسلم (1166) عن أبي هريرة]، وقولِه عليه السَّلام: «التَمِسُوها في العشر الأواخر من رمضان، في تاسعةٍ تبقى، في سابعةٍ تبقى، في خامسةٍ تبقى» [رواه البخاري (2021) عن ابن عباس]، وقولِه عليه الصلاة والسلام: «التَمِسُوها في السَّبْع والتِّسْع والخمس» [رواه البخاري (49) و(2023) عن عبادة بن الصامت]، وقوله عليه السلام: «التَمِسُوها في السَّبْع الأواخر» [رواه البخاري (6991)، ومسلم (1165) عن ابن عمر]، فالأمرُ بالالتماس لا يكونُ لشيء وقع وانقضى، وإنما يكونُ لأمر مُستَقبَل، فإذا انضَمَّ إليه أنه قد وقع سابقاً بالاتفاق، أفاد أنه مُتجدِّدُ الوقوع ولا بُدّ.

ثم إنّ الظاهرَ أنّ اختلافَ هذه الألفاظ ـ أو بعضها على الأقل ـ بحسب تعدُّد السنوات التي قيلت فيها، بقرينة أنّ في حديث عبادة بن الصامت: أنّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان أُريها ـ أي: رأى في المنام تعيينها في أيِّ ليلةٍ ـ ثم خرج ليُخبِرَ الناسَ فأُنسِيَها بسبب خصومةٍ بين رجلين، وفي حديث أبي سعيد: أنه عليه السلام كان قد اعتكف العشر الأواسط من رمضان، فأُرِيَها ثم أُنسِيَها، فطلب التماسَها في العشر الأواخر، وفي حديث أبي هريرة: أنه عليه الصلاة والسلام أُرِيَ ليلة القدر، ثم أيقَظَه بعضُ أهله، فأُنسِيَها. واختِلافُ سبب النسيان قرينةٌ على تكرار وقوع ذلك في عام بعد عام.

على أنه يكفينا أن يَثبُتَ أنّ النبيَّ صلّى الله عليه وسَلّم أمَرَ بالتماسها مرّةً واحدة؛ إذْ لا احتمال لأن يكونَ هذا الأمرُ في السَّنةِ الأولى من البعثة في ليلة القدر التي أُنزِلَ فيها القرآن، لأنه ما كان قد أسلَمَ أحدٌ بعدُ، ولا كان له عليه السلام صحابة، فتعيَّن أنّ الأمر بذلك كان في سنة بعدها، وهو المطلوب.

وبهذا البيان ظهر أنّ الكلام المنقول في أول هذه المقالة ليس له وجهٌ من الصواب البتّة.

 

وأخيراً أقول: كثيرون أولئك الذين يرفضون العودة إلى الخلف، أعني: إلى تراثِ الأمة وأقوال علمائها ومناهج الفِكرِ وأصول الاستنباط وقواعد الاستدلال التي تُعَدُّ تراكماً معرفيّاً هو خلاصةُ تجارب آلاف العلماء على مرِّ مئات السنين، ويريدون ابتداء بناء المعارف من جديد، ثم لا نراهم إلا وقد أرجعونا إلى الخلف أيضاً، أعني: إلى بثِّ الشكوك في مسائل قد استقرَّت في الأمة وتجاوزها البحثُ والفِكرُ إلى غيرها، بل إلى الأهمِّ منها.

فانظر ـ أخي القارئ الكريم ـ كيف يرفضون العودة إلى الخلف من جانبه الإيجابيّ، ثم يُشرِّعون العودةَ إلى الخلف من جانيه السَّلبيّ.

على أنّ العودةَ إلى التراثِ ـ على الوجه الذي وصفتُه به في كلامي ـ لا يُعَدَّ نظرةً إلى الخلف، ولا رجوعاً إلى الوراء؛ لِـمَا أنه ماضٍ مُستَمِرٌّ إلى اليوم مُتوارَثٌ عبر الأجيال، وأما العودةُ إلى البحث في مسألةٍ تجاوَزَتْها الأمةُ من مئات السِّنين، واستَقرَّتْ على إثباتها على مرِّ العصور، فهو العودةُ إلى الخلفِ والرجوعُ إلى الوراء حقيقةً.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين