هل سيبقى العقل سيء السمعة إسلاميا

كنت قد ذكرت بصدد ترشيد الخطاب والعمل الإسلامي- سيما في مرحلة مابعد الربيع العربي- أن على الإسلاميين كسر العزلة التي يحيطون أنفسهم بها ، ليؤدوا ما أمروا به على صعيد عرفة ، من واجب التبليغ " ليبلغ الشاهد منكم الغائب "،وهي عزلة اجتماعية وفكرية وثقافية، واتقان فقهي التنزيل والنوازل، وتحرير الخطاب الإسلامي من بعض عيوب مزمنة كالإنشائية والتكرارية التي لاتؤدي غرضا بلاغيا ، و الاستعداء والإحساس المزمن بالاضطهاد، والعناية بجوانيات كل كلمة أو عبارة وآفاقها ، سيما تلك الكلمات أو العبارات المأخوذة من القرآن الكريم أو السنة المطهرة ، أو الأخبار والآثار، حتى كأن المستمع يستمع للكلمة أو للعبارة للمرة الأولى.

والنقطة التي أحب أن أثيرها اليوم لأهميتها في ترشيد التواصل مع الشارع الإسلامي ، ومع شركاء الوطن من غير الإسلاميين ، هي أن بعضا منا بطريقة واعية ، أو غير واعية ، يضع العقل مقابل النص باعتبارهما ضدين أو نقيضين ،فيؤخذ مثلا على الأشاعرة والماتريدية أوبعض المذاهب الفقهية اعتمادها على العقل أوالرأي و(هجر!) أو (الابتعاد! ) عن القرآن الكريم والسنة المطهرة ،ويدعو البعض إلى هجر علم التوحيد أو علم الكلام أو الفلسفة والمنطق باعتبارها آفات تمس العقيدة الصحيحة والإسلام بمعنى الإذعان والقبول . ويصور البعض حركة الترجمة من اللغات اليونانية والهندية والفارسية والتي بدأت مع خالد بن يزيد بن معاوية- واستمرت مع أبي جعفر المنصور و هارون الرشيد ، حتى ازدهرت في عهد المأمون- على أنها مؤامرة قصد منها إحداث الفتن بين المسلمين ، وصرفهم عن المورد الصافي لدينهم ، وهو الكتاب والسنة، منكرين بذلك ماكان للتلاقح الثقافي من أهمية كبرى ودفع قوي لكل العلوم الإسلامية الدينية والكونية ،يقول أحدهم :(وهكذا قتلت العقيدة يوم أن مزجت بعلم الكلام وأصبحت ضعيفة وعديمة الفائدة )ناعيا على الأشاعرة ورجال كأبي حامد الغزالي والزبيدي والفخر الرازي باعتبارهم ممن صرف الناس عن العقيدة الحية المستقاة من القرآن والسنة إلى التعقيد والجفاف والنقص والانحراف .
لدينا طيف من الإسلاميين اليوم اذن يمتد من النصيين الرافضين حتى للمجاز في فهم القرآن والسنة إلى المعتدلين الذين يحتفظون للرأي والعقل بدور في التعامل مع النصوص إلى المغالين في تغليب (التأويل ) حسبما تراه (عقولهم ).
وقد وضعت كلمة عقولهم بين قوسين ، لأنه لابد من تحديد معنى كلمة " العقل " أولا ،وتحديد ماهو عام وفردي فيه ،وماهو ثابت ومتحول منه ،وليس هنا موضع تفصيل كهذا ،إلا أن الملح اليوم سيما في الحوار مع الآخر كشريك في الوطن تحديد معنى مشترك متفق عليه للعقل وإعادة الاعتبار إسلاميا للعقل بهذا المعنى المتفق عليه.
ونحن- المسلمين- إن رأينا أن نبدأ من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، وهذا حق لنا ، فإن الآخرين قد لايروق لهم أن يبدأوا من حيث بدأنا ،وبالتالي فإن دورنا هو الانطلاق معهم من هذا العقل المشترك المتفق عليه ، وقد نستطيع جعلهم ينتهون إلى مابدأنا به وانتهينا اليه.
يستخدم بعض العلمانيين كلمة (العقل )بطريقة إنشائية فيها الكثير من العشوائية الطوباوية ،والخيرية الأكيدة ، عندما يعتبرونه المرجعية الوحيدة المطلقة ،وعندما يطالب بعضهم بتقديم العقل على النقل ، والإبداع على التقليد ،كما يستخدم بعض الإسلاميين الكلمة نفسها بكثير من الارتياب والشك وربما يطالبوننا بتقديم النقل على العقل ،والتقليد على الإبداع ،ومن الواضح أن كلا الفريقين يحتاجان إلى إعادة تحديد معنى المصطلحات نظريا وإجرائيا وصولا للاتفاق على نقطة بدء، وبعدها يهدي الله من يشاء .
إنني أعتقد أن دورنا- الإسلاميين- اليوم هو الإعلان عن إعادة الاعتبار للعقل ،فنحن- مع إيماننا بأن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وحي من السماء ، وأن فيهما خير تنظيم للحياة الإنسانية على الأرض- لسنا حبيسي النصوص والتراث الذي يحف بها ، ولسنا مع النقل ضد العقل ، ولا مع التقليد ضد الإبداع ،بل نحن مع النقل عندما يصح مع إعمال العقل،ومع التقليد في الثوابت ، والإبداع في المستجدات ،ويحكمنا في كل ذلك ضوابط هي بمثابة القوانين العلمية التي يحترمها الجميع.
لقد قال فؤاد زكريا ، وقد كان شيخ العلمانيين في حياته :إن الإسلاميين لا يمكن محاورتهم ، لأنهم يقولون :قال الله ،وقال رسول الله، فإن ناقشتهم ، قالوا: أنت كافر، أو مرتد!! وعلى الرغم من الخبث الواضح في قوله فإن الحوار مع من لايؤمن بما تؤمن به يجب أن يبدأ من نقطة مشتركة ،ويجب أولا أن نقدم أنفسنا للناس على أننا مسلمون بالصورة الصحيحة والصحية دون الوساوس والمبالغات والإقصاءات المرضية .
لقد عمل الإعلام الغربي والعلماني العربي على تشويه صورة المسلم بكل الوسائل الرخيصة وساعدهم على ذلك وجود حالات إسلامية مشوهة أو مريضة ،وعلينا- ونحن المسلمون- مواجهة هذه الآلة الإعلامية الضخمة بالتصويب والتسديد ،إننا حقيقة بحاجة إلى ورثة الرسل الذين يتمتعون بالحكمة والحلم وسعة الأفق للحوار مع مختلف الشرائح والعقليات والنوايا وصولا إلى المشاركة الفعالة في إدارة المجتمعات وإقناع من لم يقتنع بعد بجدارة الشريعة الإسلامية لتكون مرجعية أولى في أي دستور سيوضع في بلد خرج من زمن الاستبداد.
من جهة أخرى يمكن القول أن لسوء سمعة العقل إسلاميا عند البعض أسباب قد تكون وجيهة بالنسبة اليه ،فقد اشتركت العوامل السياسية و الخطوات العقلية الأولى عند المسلمين- بعد أن كانوا بعيدين تماما عن هذا النوع من التفكير في محاولة للتصدي لمحاولات التشكيك في البلاد المفتوحة- مع الترجمة عن اللغات الأخرى في نشوء فرق وفلسفات انحرفت كثيرا عن الهدي القرآني والنبوي ،إلا أن هذا لا يغطي الحقيقة الساطعة كالشمس وهي أن المسلمين استطاعوا أن يتصدوا لكل هذا ويحافظوا على أصالة دينهم وقيمهم ،وأن يفيدوا في الوقت نفسه من عصارة تجارب الآخرين في كل نشاطهم الفكري والعلمي ،إن الفتح الإسلامي بما عناه من انفتاح على الآخر كان سببا وراء حوار حضارات رائع خرج منه المسلمون منتصرين ومحافظين على هويتهم ،بعد ما قاموا بعملية انتقاء وفرز متقنة للمفيد عند الآخرين من غير المفيد.
في القرآن الكريم إشارات كثيرة لشرف العقل ،فهو مناط التكليف ،وسر الاستخلاف والتشريف ،فلا يؤمن إلا القوم العاقلون ،وما جعل آدم خليفة الله في أرضه وما أمر الملائكة بالسجود له تشريفا إلا لعقله الذي هو وعاء الوعي والإدراك،عندما علم الأسماء كلها ،وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله في ذم الهوى آثارا يعضد بعضها بعضا في فضل العقل ،إلى أن انتهى بقوله :(إنما تتبين فضيلة الشيء بثمرته وفائدته ،وقد عرفت ثمرة العقل وفائدته ،فإنه هو الذي دل على الإله وأمر بطاعته وامتثال أمره،وثبت معجزات الرسل وأمر بطاعتهم ،وتلمح العواقب ،فاعتبرها فراقبها وعمل بمقتضى مصالحها ،وقاوم الهوى فرد غربه –أي حده- وأدرك الأمور الغامضة ،ودبر على استخدام المخلوقات فاستخدمها ،وحث على الفضائل ونهى عن الرذائل،وشد أسر الحزم ،وقوى أزر العزم ،واستجلب مايزين ،ونفى مايشين ،فإذا ترك وسلطانه   أسر فضول الهوى فحصرها في حبس المنع ،وكفى بهذه الأوصاف فضيلة ).
وفي كلام ابن الجوزي ذكر لأشكال العقل ووظائفه كالعقل النظري والعقل العملي والعقل الأخلاقي ، هذا ولكل عصر لغته ومفرداته ودرجة نمو المعرفة فيه،ولا يجدر بالمسلمين اليوم أن يستخدموا لغة الأمس-إلا ماكان وحيا فهو فوق التاريخ ، أو كان أصيلا ولم يتم تجاوزه- في قضايا تجاوزت المعرفة فيها تلك اللغة ، فهل يجوز بعد هذا أن يمنع تدريس الفلسفة في بعض البلاد بحجة أنها سبب في الفتنة والضلال .
لقد تفرع عن الفلسفة علوم كثيرة منها ماسمي بالعلوم الإنسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم خصائص الشعوب وعلم الجمال وعلم الأديان ، وهي علوم نافعة بالتأكيد كما أثبتت التجارب ،وقد رفض بعض الإسلاميين هذه العلوم جملة واحدة في حين مال البعض إلى تأصيل إسلامي لهذه العلوم ،وهو مانحتاج إليه لقطف ثمرات هذه العلوم في مواجهة المستجدات ولفتح حوار مع الآخر الشريك في الوطن،فضلا عن أنه تبين أنه حتى العلوم التطبيقية إنما تقوم على أرضيات فلسفية وقواعد يعتبرها أصحابها من البدهيات ،بل إن الأمر زاد حتى بلغ وجود مايسمى بفلسفة العلم التي تجيب عن طبيعة العلم وصلته بالواقع والحقيقة والمنفعة ،فهل يعقل أن يهجر المسلمون كل ذلك أم أن الواجب عليهم أن يعودوا إلى كل هذا بالوزن والتأصيل الشرعي والعقدي ،من هنا قد يصح القول : إن الفجوة صارت كبيرة جدا بين الفكر الإسلامي والفكر العلماني من حيث امتلاك هذا الأخير لأدوات ومناهج ورؤى حرم المسلمون أنفسهم منها احترازا مبالغا فيه أو تقصيرا ،وأنه كي يعاد الاعتبارللعقل إسلاميا لا يكفي ذكر الآيات القرآنية التي تشير إلى مكانة العقل وصلته بالإيمان ،بل لا بد من بذل الجهود كما فعل علماء الإسلام في عصر الذروة الحضارية الإسلامية في إعادة استثمار ما تراكم من علوم ومعارف ضمن التصور الإسلامي الشمولي .والله أعلم
أبو عبيدة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين